في قلب القارة الأوروبية، بدأت فرنسا تترنح تحت وطأة أزمة اقتصادية وسياسية قد تجعلها آخر قطعة دومينو تسقط في سلسلة الأزمات التي تهز استقرار أوروبا تحت وطأة مزيج متفجر ومؤلم يجمع بين اقتصاد راكد، ودين عام يتصاعد بسرعة مخيفة، وضغوط متزايدة لزيادة الإنفاق العسكري، وأزمة هجرة مستمرة، ورئيس يعاني من انخفاض شعبيته بشكل غير مسبوق، وحكومة تفتقر إلى أغلبية برلمانية مستقرة، ما يُشكل وصفة مثالية لاندلاع فوضى سياسية واجتماعية لن تبقي ولن تذر.
ومع عجز في الميزانية يبلغ 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يقارب ضعف الحد الأقصى المقبول من قبل أعضاء منطقة اليورو (3%)، ودين عام يتجاوز 113% من الناتج المحلي، يواجه رئيس الوزراء فرانسوا بايرو معركة شاقة لتمرير خطة تقشف طموحة بقيمة 43.8 مليار يورو (51.1 مليار دولار).
وأشار تحليل لمجلة ريسبونسبل ستيتكرافت إلى أن هذه الخطة، التي تهدف إلى تقليص العجز وسط اقتصاد شهد نموًا بنسبة 1.2% فقط العام الماضي ومن المتوقع أن ينمو بـ0.6% هذا العام، تواجه معارضة شرسة تهدد بإسقاط الحكومة عبر تصويت عدم الثقة المقرر في 8 سبتمبر 2025، مما قد يُعمق الفوضى السياسية ويؤدي إلى انتخابات برلمانية جديدة.
تعهدات عسكرية تُشعل ردود فعل غاضبة
تتفاقم الأزمة بسبب تعهد الرئيس إيمانويل ماكرون برفع الإنفاق العسكري إلى 64 مليار يورو بحلول 2027، أي زيادة من 2% إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى 1.5% أخرى مخصصة للبنية التحتية الدفاعية. هذا الالتزام، الذي يتماشى مع وعود حلفاء الناتو للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيادة الإنفاق الدفاعي، يضع فرنسا في مأزق اقتصادي وسياسي معقد. كيف يمكن تمويل هذه الزيادة الضخمة دون تفاقم الدين العام؟ ولفت التحليل إلى أن خطة بايرو تشمل تجميد المدفوعات الاجتماعية، أي خفض معاشات المتقاعدين، وإلغاء عطلتين وطنيتين، علاوة على تقليص الوظائف الحكومية بشكل كبير، وزيادات ضريبية غامضة تستهدف الأثرياء.
ولكن هذه الإجراءات أثارت موجة غضب عارمة. فاليسار المتطرف، بقيادة جان-لوك ميلونشون، واليمين القومي بزعامة مارين لوبان، يهددان بإسقاط الحكومة، حيث يمتلك اليسار الجديد الشعبي 180 مقعدًا في الجمعية الوطنية، والتجمع الوطني 142 مقعدًا، مقابل 210 مقاعد فقط للائتلاف المركزي الداعم للحكومة. هذا الاستقطاب السياسي، المقترن بقضية قانونية مثيرة للجدل ضد لوبان قد تمنعها من الترشح للرئاسة، يزيد من احتمالات انهيار الحكومة، مما قد يدفع فرنسا نحو انتخابات مبكرة تُفاقم عدم الاستقرار.
تاريخ الاحتجاجات العنيفة ينذر بالتصعيد
ليس التقشف غريبًا على فرنسا، ولا ردود الفعل العنيفة تجاهه. فقد شهدت البلاد موجات احتجاجية عاتية في الماضي، من حركة السترات الصفراء في 2018 إلى مظاهرات إصلاح نظام التقاعد في 2023، حيث تحولت الاحتجاجات إلى اشتباكات عنيفة مع الشرطة، أحرقت خلالها مركبات وتضررت ممتلكات عامة. اليوم، تستعد النقابات العمالية لإضراب وطني في 10 سبتمبر 2025، بدعوات من مجموعات مثل "mobilisation10septembre" لـ"إضراب كامل وغير محدود" في طول البلاد وعرضها. هذه الاحتجاجات ليست مجرد تعبير عن استياء شعبي، بل تحذير صارخ من أن السياسات التي تعطي الأولوية للإنفاق العسكري على حساب الخدمات الاجتماعية، مثل التعليم والرعاية الصحية، قد تُشعل فتيل اضطرابات اجتماعية أكثر عنفًا. هذه الديناميكية تعكس سخطًا شعبيًا متزايدًا تجاه حكومة تبدو منفصلة عن هموم المواطنين، خاصة مع استمرار الضغوط الاقتصادية وتفاقم التفاوت الاجتماعي.
أوروبا على شفا تحولات جذرية
وأشارت المجلة إلى أن أزمة فرنسا ليست حالة فردية أو معزولة، بل جزء من موجة أزمات اقتصادية وسياسية تجتاح أوروبا. في ألمانيا، انهارت الحكومة الائتلافية السابقة بسبب خلافات حول الميزانية، وتواجه الحكومة الحالية، المكونة من الديمقراطيين المسيحيين والاشتراكيين، ضغوطًا مماثلة لزيادة الإنفاق العسكري مع استثمارات ضخمة في البنية التحتية. وارتفع الاقتراض الألماني من 33 مليار يورو في 2024 إلى 81 مليار يورو هذا العام، مع توقعات بوصوله إلى 126 مليار يورو بحلول العام 2029، مما يثير مخاوف من استدامة هذا المسار دون خفض الرفاهية الاجتماعية.
وينذر صعود حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، الذي يقترب من تجاوز الديمقراطيين المسيحيين في استطلاعات الرأي، بتحولات سياسية خطيرة بحلول الانتخابات الوطنية في 2029. في بريطانيا، تواجه حكومة العمال بقيادة كير ستارمر تمردًا داخليًا بسبب محاولاتها خفض الإنفاق الاجتماعي لتمويل الإنفاق العسكري، مع صعود حزب الإصلاح الشعبوي بزعامة نايجل فاراج، الذي يحظى بفرصة حقيقية لتشكيل الحكومة المقبلة. هذه التطورات تعكس أزمة أوسع في التوازن بين الطموحات الجيوسياسية والقيود الاقتصادية عبر القارة.
تحديات الاستقرار الأوروبي ومخاطر التقشف
يحذر بايرو من أن فشل فرنسا في خفض ديونها قد يعرضها لمصير مشابه لليونان بعد أزمة 2008، حيث عانت من ركود اقتصادي طويل وإجراءات تقشف قاسية فرضها الاتحاد الأوروبي بضغط من ألمانيا. لكن فرنسا، كثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، ليست اليونان، مما يجعل فرض شروط مماثلة غير مرجح. ومع ذلك، فإن استمرار الانخفاض الاقتصادي قد يكون الخيار الأسهل سياسيًا، لكنه يهدد بتعميق الاستقطاب السياسي وزيادة نفوذ الأحزاب المتطرفة. إذا سقطت حكومة بايرو في تصويت عدم الثقة في 8 سبتمبر، فقد ترتفع تكاليف الاقتراض الفرنسية، متجاوزة نظيرتها الإيطالية، مما يضع استقرار الاتحاد الأوروبي على المحك. هذا الوضع يعكس توترًا أعمق بين الحاجة إلى استقرار اقتصادي والضغوط السياسية الداخلية، التي قد تدفع أوروبا نحو مزيد من عدم الاستقرار.
دروس للولايات المتحدة ومستقبل العلاقات عبر الأطلسي
توجه أزمة فرنسا رسائل واضحة لواشنطن، خاصة لإدارة ترامب. أولًا، يجب التعامل بحذر وتشكك في وعود أوروبا بزيادة الإنفاق العسكري، فقد تكون هذه الالتزامات تفوق قدراتها المالية والسياسية، خاصة مع الضغوط الاقتصادية المتزايدة. ثانيًا، الضغط المفرط على الحلفاء الأوروبيين لتلبية هذه الالتزامات قد يهدد استقرارهم السياسي والاقتصادي، وهو مصلحة أمريكية حيوية تفوق أهمية قضايا مثل الحدود الأوكرانية. أخيرًا، دعم "قوة طمأنة أوروبية" لأوكرانيا محفوف بالمخاطر، نظرًا لافتقارها للموارد الكافية والدعم السياسي المستدام. العديد من الأحزاب المتطرفة، سواء على اليمين أو اليسار، تعارض دعم أوكرانيا عسكريًا أو زيادة الإنفاق الدفاعي، مؤكدة أن المشاكل الداخلية لبلدانها لها الأولوية.
وكشفت أزمة فرنسا عن تناقض عميق بين الطموحات الجيوسياسية والقيود الاقتصادية التي تكبل أوروبا. التقشف، الذي يُروَّج له كحل للأزمة، قد يصبح الشرارة التي تُشعل احتجاجات أكثر عنفًا، مُنذرة بمستقبل مضطرب لفرنسا وللقارة بأسرها. مع اقتراب موعد تصويت الثقة وتصاعد التوترات الاجتماعية، تبدو فرنسا على مفترق طرق: إما إصلاحات مؤلمة تواجه مقاومة شعبية، أو انهيار سياسي يُهدد بزعزعة استقرار أوروبا بأكملها.