توجه المستشار الألماني فريدريش ميرتز إلى العاصمة الأمريكية واشنطن على متن طائرة صغيرة، في زيارة قصيرة نسبيًا مقارنة بأسلافه في هذا المنصب، وفقًا لمجلة دير شبيجل الألمانية، ما أثار التساؤلات في الأوساط السياسية والإعلامية، ليس فقط بسبب وسيلة النقل غير المعتادة، بل أيضًا بسبب توقيت الزيارة، الذي تزامن مع تصاعد التوترات الدولية، ولقاءات حساسة جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظرائه من روسيا وأوكرانيا.
ضرورة أم رسالة ذات مغزى؟
ترجج المجلة الألمانية أن الاختيار ميرتز السفر بطائرة صغيرة لا يمكن قراءته فقط من زاوية اللوجستيات أو السرعة، بل يحمل في طياته رسالة سياسية واضحة. فالمستشار الألماني، الذي يقود حكومة محافظة في مرحلة دقيقة للغاية من تاريخ أوروبا وسط تهديدات شتى، أراد أن يبعث بإشارة مفادها أن ألمانيا تتحرك بسرعة، وبشكل مستقل، في الملفات الدولية الساخنة، إذ أن هذا النوع من السفر يتيح مرونة أكبر، ويعكس رغبة في تجاوز البروتوكولات التقليدية التي قد تعيق التحرك السريع في لحظات حرجة.
ووفقًا لتقرير نشرته مجلة "بوليتيكو – يورب"، فإن ميرتز كان يسعى إلى لقاء ترامب قبل اجتماعه المرتقب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في محاولة لتنسيق المواقف الأوروبية بشأن الحرب في أوكرانيا، وضمان عدم تقديم تنازلات تمس وحدة الأراضي الأوكرانية.
وجاءت زيارة ميرتز في وقت تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية. فبعد لقاء ترامب مع بوتين في ألاسكا، وتصاعد الحديث عن "صفقة محتملة" لإنهاء الحرب، شعرت العواصم الأوروبية بقلق بالغ.
لذا وجدت ألمانيا، بصفتها القوة الاقتصادية والسياسية الأكبر في الاتحاد الأوروبي، نفسها أمام تحدي الحفاظ على وحدة الموقف الأوروبي، ومنع أي انفراد أمريكي في صياغة مستقبل أوكرانيا دون التشاور مع الحلفاء.
وفي هذا السياق، يشير موقع "يوراكتيف" إلى أن ميرتز لم يكن وحده في واشنطن، بل انضم إليه قادة أوروبيون مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وزعيم المعارضة البريطانية كير ستارمر، في محاولة لتشكيل جبهة أوروبية موحدة أمام الإدارة الأمريكية.
رمزية الطائرة الصغيرة: استقلالية القرار الألماني
رجح المراقبون أن استخدام طائرة صغيرة لا يعكس فقط استعجالًا، بل يحمل دلالة رمزية قوية. فميرتز سبق أن صرّح، في مقابلة مع صحيفة "فراكفروتر الألمانية"، بأنه "لن يسافر إلى واشنطن كمجرد تابع"، بل كممثل لموقف أوروبي مستقل. ويعكس هذا التصريح تحوّلًا في المزاج السياسي الألماني، الذي بات أكثر ميلًا إلى تأكيد الاستقلالية والسيادة في القرارات الخارجية، خصوصًا بعد سنوات من التبعية النسبية والتطابق مع السياسات الأمريكية في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل.
وأشار موقع دويتش فيله الإخباري إلى أن الطائرة الصغيرة ليست مجرد وسيلة نقل، بل أداة رمزية تعكس فلسفة سياسية جديدة، قوامها: التحرك السريع، والمستقل، والعملي، بعيدًا عن مظاهر البذخ أو قيود البروتوكول.
الاجتماع مع ترامب: اختبار للثقة والتأثير
ويبدو أن اللقاء بين ميرتز وترامب لم يكن سهلًا. فالرئيس الأمريكي، المعروف بنزعته الانفرادية، لم يُبدِ حماسة كبيرة للتنسيق مع الأوروبيين، خصوصًا في ظل تصاعد الضغوط الداخلية عليه بشأن ملف أوكرانيا.
ومع ذلك، تشير صحيفة واشنطن بوست إلى أن ميرتز نجح في انتزاع تعهدات أمريكية بعدم الاعتراف بأي تغيير في الحدود الأوكرانية دون موافقة كييف، وهو ما اعتُبر انتصارًا دبلوماسيًا لألمانيا، كما ناقش الطرفان ملفات أخرى مثل الرسوم الجمركية على السيارات الأوروبية، والدعم العسكري لأوكرانيا، ومستقبل العلاقات عبر الأطلسي، في ظل تصاعد التوترات مع الصين وروسيا.
ميرتز وإعادة رسم صورة القيادة الألمانية
في الداخل الألماني، أثارت الزيارة ردود فعل متباينة. فبينما رحّبت الأوساط المحافظة بالتحرك السريع والحاسم، انتقدت بعض الأحزاب اليسارية ما اعتبروه "استعراضًا رمزيًا لا يغير من واقع التبعية الأوروبية للقرار الأمريكي".
ومع ذلك، فإن استطلاعات الرأي التي نشرتها صحيفة Der Tagesspiegel، أظهرت ارتفاعًا في شعبية ميرتز بعد الزيارة، خصوصًا بين فئة الشباب الذين رأوا فيه قائدًا عمليًا لا يخضع للشكليات.
زيارة قصيرة.. ولكن محورية
رغم قصر مدة الزيارة، فإنها حملت دلالات استراتيجية عميقة. فميرتز لم يسافر فقط لمجرد اللقاء، بل ليؤكد أن ألمانيا قادرة على التحرك بسرعة، والتأثير في القرارات الدولية، دون أن تكون مجرد تابع.
الطائرة الصغيرة كانت وسيلة، لكنها أيضًا رسالة: أن القيادة لا تقاس بحجم الطائرة، بل بوضوح الرؤية، وسرعة التحرك، وجرأة الموقف.