في اختراق علمي لافت، تمكّن فريق من الباحثين في الولايات المتحدة من تطوير نظام قادر على فك رموز الكلمات التي يتخيل المرضى قولها داخلياً، وليس فقط ما يحاولون النطق به فعلياً، وهو ما يُعد خطوة متقدمة نحو استعادة القدرة على التواصل لدى مرضى يعانون من أمراض مثل التصلب الجانبي الضموري (ALS) أو المصابين بسكتات دماغية أفقدتهم القدرة على الكلام، وفق ما ذكرته صحيفة “نيويورك تايمز”.
وتأتي هذه النتائج في إطار التجارب السريرية طويلة الأمد ضمن مشروع “BrainGate2″، أحد أبرز مشروعات واجهات الدماغ الحاسوبية في العالم. ووفق التقرير المنشور، نجح فريق من الباحثين بجامعة ستانفورد في تدريب أنظمة ذكاء اصطناعي على تحليل النشاط الكهربائي للدماغ، مما مكنهم من التنبؤ بالكلمات التي كان المشاركون يتخيلون قولها بنسبة دقة متقدمة.
من بين المشاركين في التجربة كايسي هاريل، المصاب بمرض التصلب الجانبي الضموري، الذي فقد القدرة على الحديث منذ عام 2023. وبفضل زرع مصفوفات دقيقة من الأقطاب على الجزء الأيسر من قشرته الدماغية، تمكّن النظام الحاسوبي من تسجيل الإشارات المرتبطة بمحاولاته نطق كلمات معينة. ومع تكرار التدريب تعرفت الخوارزميات على نحو 6 آلاف كلمة بدقة بلغت 97 بالمائة، ثم أُعيد توليد صوته باستخدام تسجيلات محفوظة له قبل فقدان النطق.
لكن التحوّل الأبرز تمثّل في نجاح الفريق في فك شفرة “الكلام المتخيَّل” أو ما يُعرف بـ”الصوت الداخلي”. ووفق الباحثة إيرين كونز من جامعة ستانفورد، لم يكن الهدف فقط معرفة ما إذا كانت الآلة قادرة على فهم هذه الأنماط الذهنية، بل فحص احتمال أن “تستمع” إلى أفكار لم يكن المقصود أن تُقال، مما يطرح أسئلة أخلاقية حساسة حول الخصوصية العقلية.
في إحدى التجارب طُلب من المشاركين تخيّل كلمات محددة مثل “طائرة ورقية” أو “يوم”، وقورنت الإشارات الناتجة بتلك المسجلة عند محاولة النطق الفعلي. ورغم أن الإشارات الناتجة عن التخيل كانت أضعف، فقد تمكّن النظام من التمييز الصحيح في نسبة كبيرة من الحالات، وبلغت الدقة 70 بالمائة لدى بعض المشاركين.
ومع التركيز لاحقًا على تدريب الخوارزميات على “الكلام الداخلي”، تحسنت النتائج بشكل ملحوظ، وتمكّن النظام من فك رموز جُمل متكاملة تخيّل المشاركون قولها، مثل: “لا أعرف منذ متى أنت هنا”، بدقة مرتفعة في معظم الكلمات.
ومع هذا التقدم ظهرت تحديات تتعلق بالخصوصية الذهنية. ففي تجربة أُخرى أُتيح للمشاركين مشاهدة عدد من الأشكال الملوّنة، وطُلب منهم عدّ الأشكال ذات اللون أو الشكل المحدد. وأثناء العملية تمكن النظام من التقاط كلمات أرقام كان المشاركون يعدّونها داخلياً، دون أن يُطلب منهم قولها، مما يعكس قدرة النظام على “التقاط” أفكار لم تُعلن.
ولتجاوز هذا التحدي طوّر الفريق البحثي نظام تحكُّم داخلياً يمنح المستخدم سلطة تحديد متى يبدأ فك الشفرة. أحد هذه الحلول كان “كلمة مرور ذهنية” فريدة، هي عبارة “Chitty Chitty Bang Bang”، التي اختيرت كجملة طويلة وغير متوقعة لتفعيل النظام. وقد أظهرت التجربة أن النظام تعرّف على الكلمة بنسبة 98.75 بالمائة، ولم يفك أي رموز بعدها إلا عند سماعها داخلياً.
كما أظهرت التجارب قدرة النظام على التفريق بين “الكلام المحاوَل” و”الكلام المتخيَّل”، مما يمنح المستخدم مرونة اختيار الطريقة الأنسب للتواصل.
ورغم أن هذه التقنية لا تزال غير كافية لإجراء حوارات كاملة بالاعتماد على الصوت الداخلي وحده، فإن الباحثين واثقون من اقتراب تحقيق هذا الهدف، في ظل التقدم المتسارع في سرعة الخوارزميات ودقتها.
عدد من خبراء الأعصاب والتقنيات اعتبروا الدراسة خطوة فارقة في مسار واجهات الدماغ الحاسوبية. وعلّق العالم كريستيان هيرف، من جامعة ماستريخت، بأن “الدراسة تكشف عن تداخل مذهل بين التخيل اللغوي والنطق الفعلي”، فيما نبّه خبراء في الأخلاقيات الرقمية إلى أهمية سنّ قوانين تضمن عدم اختراق الخصوصية العقلية، وتمنح الأفراد سلطة حقيقية في التحكم بما يفكرون به دون خشية أن يُسمع أو يُسجَّل ذلك دون إذنهم.
ويبدو أن السباق المقبل في عالم التكنولوجيا قد لا يكون في تحسين الصوت الخارجي فحسب، بل في الوصول إلى تلك اللحظة التي يصبح فيها “الصوت الداخلي” قابلاً للترجمة، ومفهوماً للآخرين.