خلصت دراسة بحثية جديدة بعنوان “امتداد النظريات التقليدية لتفسير السلوك الإجرامي في عصر الرقمية والذكاء الاصطناعي”، إلى راهنية وأهمية مواجهة “التحديات التقنية والمعيقات القانونية” المطروحة في مجالات “تطبيق الذكاء الاصطناعي الجنائي”، مع توصيات بارزة، أهمها “إدراج الذكاء الاصطناعي في تكوين القضاة، وتطوير آليات لفهم قراراته عند استخدامها في الإثبات الجنائي، وتوسيع مفهوم القرينة الجنائية ليشمل مخرجاته”.
واقترح الباحث يونس باعدي، معدّ الدراسة المنشورة بداية غشت الجاري في مجلة “الشؤون الجنائية والحكامة الأمنية” (مجلد 2 عدد 3، 2025)، العمل على “ملاءمة النظريات التقليدية مع النظريات الحديثة” من جهة، مناديا من جهة أخرى بـ”توفير موارد بشرية وتقنية متخصصة، وتطوير خوارزميات وطنية شفافة، ودمج الذكاء الاصطناعي تدريجيا في السياسات الأمنية عبر إطار مؤسساتي خاضع للمساءلة”.
البحث الذي طالعته هسبريس، أكد من خلاله باعدي، وهو دكتور في القانون الجنائي والعلوم الجنائية متخصص في القانون الرقمي السيبراني، “ضرورة إعداد منظومة تشريعية وأخلاقية متكاملة، تؤطّر استخدام الذكاء الاصطناعي في الميدان الجنائي، خاصة في تفسير السلوك الجنائي والحفاظ على مبدأ البراءة، وتحصين العدالة من مخاطر الانحراف الرقمي”، مثيرا كذلك “تعزيز دور القضاء البشري كفاعل مركزي في كل قرار يهم الحريات الفردية والمسؤولية الجنائية”.
تتنوع وتتوزع مجالات تطبيق الذكاء الاصطناعي الجنائي، حسب ما أوضحه الباحث ذاته، بين “تحليل السلوك الإجرامي، والتعرف على الوجوه، وتتبع تحركات الجناة، وتصنيف الخطورة الإجرامية، وبرمجة مسارات إعادة الإدماج والتنبؤ بوقوع الجريمة”؛ قبل أن يتابع مستدركا: “غيرَ أن هذه التطبيقات تواجه معيقات تقنية، كضعف البنية التحتية وقلة الكفاءات المتخصصة، وأخرى قانونية تتعلق بغياب تشريعات واضحة وعدم تحديد المسؤولية الجنائية في حالة الخطأ الآلي”.
تحدي “التحيّز الخوارزمي”
الدراسة التي نشرت بالمجلة العلمية المحكّمة سالفة الذكر، انطلقت من تشخيص مفاده أن “توظيف الذكاء الاصطناعي في علم الإجرام يمثل تحولا جوهريا في فهم السلوك الإجرامي وتفسيره والتنبؤ به، حيث فتحت تقنيات التعلم الآلي أفقا واسعا لتطبيقات ذكية في مجالات متعددة كالتصنيف الآلي للمجرمين، وتحليل الوقائع الجنائية، وتقديم الدعم للقضاة والشرطة في اتخاذ القرار”.
وقد أتاح هذا التحول “نماذج تنبؤية دقيقة لرصد الأنماط الإجرامية المحتملة، وبناء تدخلات وقائية أكثر فعالية”، إلا أن ذلك “لا يخلو من تحديات حقيقية، أبرزها التحيّز الخوارزمي الناتج عن بيانات غير محايدة، وضعف الشفافية في القرارات الآلية”، إضافة إلى “انتهاك الخصوصية وغياب الإطار القانوني المنظم لهذه التطبيقات”.
وسجل الباحث أنه “رغم هذا التحول الرقمي المتسارع، فإن النظريات التقليدية في علم الإجرام، من المدرسة الكلاسيكية إلى المدرسة الوضعية، لا تزال تحافظ على صلاحيتها التفسيرية، بل تشكل في كثير من الأحيان أساسا معرفيا للعديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي”.
وتابع بالشرح: “تعتمد الخوارزميات التنبؤية اليوم على معطيات مستوحاة من فرضيات تقليدية حول الدوافع الفردية والسياقات الاجتماعية، وتعيد رقمنة الأنماط السلوكية عبر منظور حسابي مستند إلى تصورات بيولوجية ونفسية وسوسيولوجية سبق أن أرستها تلك النظريات. وبالتالي، لا يعد الذكاء الاصطناعي قطيعة مع الأسس النظرية الكلاسيكية، بل هو امتداد برمجي لها في بيئة رقمية أكثر كثافة وتعقيدا”.
توصيات
أوصت الدراسة، التي اعتمدت مراجع عربية وأخرى أجنبية، بـ”تطوير نظرية إجرامية هجينة تراعي معطيات التكنولوجيا وتدمج بين الإنسان والآلة في تفسير السلوك الإجرامي، مع سن تشريعات خاصة بالمسؤولية الجنائية للأنظمة الذكية، وتدريب القضاة ورجال القانون على التعامل مع الخوارزميات والبيانات الجنائية الضخمة”.
كما دعت إلى توسيع مفهوم “الجاني” ليشمَل الكيانات غير البشرية، ووضع مدونات أخلاقية للخوارزميات تضمن الشفافية والعدالة، وتعزيز البحث الأكاديمي المشترك بين القانونيين والمُبرمجين وعلماء النفس السيبراني.
وختمت بالتشديد على “إدراج الذكاء الاصطناعي في تكوين القضاة، وتطوير آليات لفهم قراراته عند استخدامها في الإثبات الجنائي، وتوسيع مفهوم القرينة الجنائية ليشمل مخرجاته، مع التأكيد على أن يظل أداة لخدمة العدالة لا بديلا عن القاضي البشري، في إطار رؤية جديدة لعلم الإجرام تواكب تحديات العصر الرقمي”.