كثيرا ما ردد الباحث حسن اوريد في العديد من حوارته، على أن من مكونات الشخصية المغربية، أنها لا تنسكب في قالب واحد، فنحن نتخندق في خطاب متعدد، لأننا نعيش ما يسميه بالتعثر الهوياتي. وهي رؤية لا يمكن ان تخفي اعطاب مجتمع مغربي، يعرف عنفا ماديا ورمزيا، اختير له مؤخرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي بما يسمى بتهركاويت. فهل يرى السيد حسن اوريد ان المغاربة اليوم يحسون انهم الأوائل في قريتهم؟ وهل ينكر ان اغلبهم يفضلون على أن يكونوا في المرتبة الثانية، في روما، كما المقولة المأثورة لقيصر؟
لا شك ان السيد حسن اوريد، يدرك أن الألفية الثالثة ستكون أكثر عنفا، في ظل تزايد تأكيد الذات ونفي الآخر. وعبر مفارقات عديدة ومتعددة، لا تعني فقط بان العنف كان موجودًا دائمًا، أو حتى متجددًا بل من خلال ظهور أشكال جديدة من العنف، تكرس رؤى جديدة للحياة.
السؤال هو لماذا كانت مشكلة العنف، أحد التحديات الرئيسية التي رافقت الانسان منذ بدايته الى اليوم؟ والجواب سيكون من العبث والافتراض التظاهر بتجاهل الإجابات المقدمة لذلك، لان محاولة تحديد أشكال العنف المعاصرة، لا يمكن القيام بها، دون تذكر أشكاله القديمة والتي حتى ولو تمت الإشارة إليها أحيانًا بنفس المصطلح القديم، مما يستدعي فحص المنطلقات النظرية التي تحاول تفسير العنف والتصدي له من خلال العودة الدائمة للأسس الفلسفية إلى المنبع، كالربط بين سيادة القانون والهيئة المسؤولة عن إنفاذه، وهي الدولة. حيث يرى عالم الاجتماع ورائد التواصل الألماني (هابرماس) ان فكرة سيادة القانون، تتطلب نوعا من تنظيم القوة العامة التي تلزم السلطة السياسية وبشكل قانوني، لإضفاء الشرعية على نفسها بدورها وفقا للقانون المشرع، لان تنظيم العلاقة بين الجانبين لا يخرج عن افكاره التواصلية كأحد أسباب التواصل التي تميل إلى القضاء على جميع أشكال العنف.
لا يمكن هنا تجاهل تعريف (ماكس فيبير) للدولة، على أنها تحتكر العنف المشروع، وهو نوع من العنف الوقائي، الذي يفترض مسبقا أن عنف المواطنين يظل كامنا وموجودا على الأقل، ومهددا دائما للوضع الامني. انه نوع من العنف الطبيعي، من خلال الإصرار على الطبيعة الأصلية المشتركة للحقوق الخاصة والسياسية، حيث يمنح هابرماس نفسه الوسيلة النظرية لإضفاء شرعية أكثر عقلانية على الدولة، ولكن في الوقت نفسه، يسلط الضوء بشكل غير طوعي على الهشاشة العملية لهذه الشرعية.
فالانتشار المتزايد للمصالح الخاصة على الحقوق، يؤدي إلى تقويض شرعية الدولة التي تميل إلى تقليصها بهدف الحفاظ على النظام، في نفس اللحظة التي تقيد فيها عملية العولمة مجال الانسان، عبر التوازن بين العقل والعنف، أو بالأحرى تشكيل العنف بالعقل، مما يعطي مشكل الخوف العام من الآخر وهواجس الحفاظ على الذات كمثال على العنف والعنف المضاد، (على سبيل المثال نقد ماركس لمبادئ فلسفة هيغل للقانون). وهومثال يخفي العنف الطبقي ويعززه. فالعنف له ما يبرره على أنه رد على عنف سابق ، الفرق هنا هو أن العنف المضاد من المفترض أن يلغي في النهاية كل أعمال العنف، مما يؤدي إلى اختفاء الدولة كشكل من أشكال التعبير السياسي.
إن الذين ينتمون إلى ثقافة أو حضارة تتنافس قواعدها مع تلك القواعد التي تجعل من الممكن النجاح (أو النجاح بشكل أفضل)، يوضعون أمام المعضلة، إما للحفاظ على ثقافتهم والاختلاف معها، او بالتخلي عنها لاعتماد قواعد اخرى، والسؤال هو هل كل ذلك يقلل إلى حد كبير من دور الدولة؟
قد تكون عدوانية البشر شيئًا واحدًا. لكنها تكون أكثر مع أولئك الذين يجدون أنفسهم مطرودين من النظام الاقتصادي، مطوقين بمواضيع البطالة والتهميش والهشاشة والمخدرات، مما يؤدي الى حدوث العنف المضاد، أو العنف كوسيلة للبقاء. فعولمة العنف زادت من الخوف الواسع الانتشار من الآخر وعدم الثقة به، انه خوف متوقع من العنف، مما يجعله دائما يبدو خطرا محتملا. فهل يمكننا ربط هذا الخوف بالانتشار المتزايد للفردية او الفردانية التنافسية التي تشكل أساس النموذج الليبرالي الجديد؟
اعتقد ان الاستبعاد هو مصطلح ، يمكن تسمية به ما يجري اليوم، فنحن اليوم امام ما يسمى بإنتاج الإنسان الذي يمكن التخلص منه في لحظة، فالعاطلون يشكلون للرأسمالية دائما عجلة أمان تسمح بخفض الأجور؛ فهم يجدون أنفسهم في وضع غير ضروري، حيث يتم استبعادهم، لأنهم لا يستطيعون الهروب من مجتمع السوق، وهو نوع من أنواع العنف الرمزي. انه نوع من التدمير الذاتي الذي يبدو أنه يفلت من كل العقلانية، كما لو كان سلبية خالصة تنقلب على كل شيء وأخيراً ضد الذات.
والحقيقة ان عبد الله العروي على حق وهو يتحدث عن الدولة المدنية المستحيلة ،في ظل تصاعد القبلية .فالإقصاء والالغاء في المغرب يقوم انطلاقا من هذا المعطى النفسي ، وما يصاحب ذلك من تعذيب نفسي وتشويه منهجي، يعكس فشلًا واضحًا لنموذج الدولة الاجتماعي في ظل غياب وسائل اخرى ترسخ التربية على قيم المواطنة ، حتى يفهم الجميع ان المغربة ليست مكونا قبليا ، وانها مكون انساني يرتبط وجوده بالممارسة الجماعية للمواطنة في الفضاء العام الديمقراطي، مما جعل الكثير من المواطنين يعيشون على مبدا الفيلسوف نيتشه : يجب أن يعرف المرء كيف ينسى من أجل العيش.
ان المغربة، خصوصية مغربية كما نتحدث عن خصوصيات اخرى ترتبط بشروط ذاتية وموضوعية فمعسكرات الاعتقال والإبادة بألمانيا خلال العنف النازي مثلا، لا ينظر اليها على أنها خصوصية ألمانية، ولكن كإرث منطقي لأوروبا الليبرالية لأنها بقيت أنموذجا لتتويج عملية التجريد من الإنسانية وتصنيع الموت، لان تفرد النازية يكمن فقط في قدرتها على توليف مختلف أشكال العنف التي يشهد بها الغرب، من العنصرية الطبقية إلى العنصرية الاستعمارية، والعنصرية المعادية للسامية.
ان الدولة كانت واعية بأهمية فكرة المواطنة من خلال تجربة الانصاف والمصالحة مثلا، لان من بين اوجه العنف السياسي يمكن الحديث عن الاختفاء كموضوعً انساني حرك الذاكرة السياسية للوعي الجمعي، انه نوع من محو الهوية التي هي أيضًا بناء اجتماعي من خلال تحويل الضحايا إلى كيانات غير مادية.
نعرف ان الذاكرة فكرة لا تعيد إنتاج الماضي فقط، ولكنها تعيد التفكير في الماضي إلى الحاضر للمستقبل. وعملية إعادة تفسير الماضي هذه، لها وظيفة اجتماعية لا تهدف فقط إلى تقوية الروابط الاجتماعية، ولكن أيضًا لتحديد الاختلافات: وبالتالي فإن التذكر سيكون وسيلة لتراجع مكانة المرء في العالم، والتفكير مع الآخرين، وأحيانًا ضد الآخرين. أخيرًا، بحيث ستكون هناك ذكريات، وتمثيلات مختلفة للعالم، تُعطى في المشاركة داخل مجموعات مختلفة تؤلف مجتمعًا.
فمبادرة الانصاف والمصالحة كتفسير معين للماضي، ابتكار رمزي عام يمكن فيه المطالبة بالعدالة باسم حقوق الإنسان، وهو ما يحدث تدريجياً على الساحة السياسية، لارتباطه الوثيق بمحاربة عنف الدولة لأنه سيؤدي فيما بعد الى تحرير الحياة السياسية والتغلب على الانقسامات، اي عبر تجديد البحث عن توافق في الآراء عن الهوية ومكوناتها المتعددة وان كان هناك من يرفض ذلك.
ان عولمة العنف من خلال ما يسمى اليوم بتهركاويت، وتداعياتها بالمجتمع المغربي تتطلب تأملا في مسالة فلسلفة المواطنة، وفي الوضع الاعتباري للمجتمع السياسي، كعمل للذاكرة من اجل طرح اسئلة جديدة تهم العلاقة بين الدولة الاجتماعية والدولة كما كان يراد لها ما بعد تجربة الاسلام السياسي، وفي توافق للآراء، الذي هو عكس الديمقراطية، إذا تم تعريفه بأنه صلة الانقسام والتعبير الحر عن الخلاف الذي لا يخرج عن عنف القبيلة ، الذي أصبح مكونا من مكونات الذاكرة السياسية والاجتماعية بالمغرب.