حين يتحول المدافعون عن الحرية إلى أوصياء على العقول
بصراحة، لم أعد أفهم طريقة تفكير بعض من يسمّون أنفسهم حماة للحقوق والديمقراطية في هذا البلد. كيف يمكن لإنسان مثل عزيز غالي، وهو رئيس جمعية حقوقية وناشط انطلاقًا من تصور شيوعي، أن يمارس لغة إقصائية ضد من يخالفه الرأي؟ وكيف يمكن لزعيم سياسي بحجم عبد الإله بن كيران، الذي ترأس الحكومة سابقًا ويقود حزب العدالة والتنمية، أن يطلق الشتائم والسخرية في كل اتجاه، فقط لأن هناك من لا يشاركه موقفه؟
أكثر ما يحيرني أن هؤلاء الناس، الذين ملأوا الدنيا حديثًا عن الحريات العامة، وعن رفض القمع السياسي، وعن ضرورة احترام التعددية، يتحولون بسرعة صادمة إلى رموز لقمع فكري لا يقل فظاعة عما يشتكون منه. بن كيران مثلًا، لم يعد يقبل بالاختلاف حتى من داخل محيطه، فما بالك بمن يجرؤ على مناقشته أو الاعتراض على آرائه. أما عزيز غالي ومن يدور في فلكه من اليسار الراديكالي، فهم يتحدثون بلغة صارمة كأنهم الناطقون الرسميون باسم الشعب المغربي، ويكادون يصدرون أحكامًا أخلاقية على كل من لا يسير في خطهم.
آخر مظاهر هذا التوجه المتعصب برزت مع تنظيم ندوة علمية حول السوسيولوجيا في المغرب، حضرها أساتذة جامعيون من دول متعددة، من بينهم أكاديميون إسرائيليون. لم يكن اللقاء سياسيًا، ولا هدفه الترويج للتطبيع، بل كان مساحة فكرية للنقاش، كما يحدث في كل الجامعات المحترمة عبر العالم. لكن ما حدث هو أن بعض المجموعات الحزبية والفكرية اعتبرت نفسها مخوّلة للحديث باسم المغاربة، وطالبت بوقف النشاط، مستخدمة خطابًا مليئًا بالتخوين والتحريض.
ما لا أستطيع فهمه هو هذا التناقض الفاضح: كيف يمكن لمن يطالب بالديمقراطية أن ينزعها عن غيره؟ كيف يمكن لمن يشتكي من قمع الدولة أن يمارس القمع ذاته على مستوى اللغة والموقف والفكر؟ هل الحرية حق له فقط؟ أم أن الآخر حين يختلف معه يصبح “مطبعًا” أو “خائنًا” أو “جاهلاً”؟
إن ما نحتاجه اليوم في المغرب ليس فقط دولة عادلة، بل أيضًا نخبًا عادلة، تدافع عن حرية الفكر للجميع، لا لنفسها فقط. لا يمكن أن نبني ديمقراطية حقيقية حين تتحول بعض الأحزاب أو الجمعيات إلى أوصياء على الوعي الجماعي، وتمنح نفسها حقًا مطلقًا في تعريف ما هو وطني وما هو خيانة.
الديمقراطية ليست شعارًا يُرفع حين نُقصى، ونُنزله حين نختلف مع الآخرين. الديمقراطية هي التزام — أولًا وأساسًا — باحترام الرأي الآخر، والدفاع عن حق المختلف أن يُسمَع، لا أن يُسخَر منه أو يُخوَّن.
الديمقراطية الحقيقية لا تبدأ بإلقاء الدروس على الآخرين، بل تبدأ بممارستها على النفس أولًا. قبل أن يعلّمونا احترام الحريات، على هؤلاء أن يتعلّموا احترام من يخالفهم.
رفع الصوت لا يعني امتلاك الحقيقة، والصراخ لا يجعل الموقف أكثر وجاهة.
الحق لا يُقاس بحدة الكلمات، ولا بعدد من يصفق، بل بقدرة صاحبه على احترام خصمه، وعلى الاعتراف بأن المجتمع يتسع لأكثر من فكرة، ولأكثر من صوت.