أخبار عاجلة
قرارات الكثيري تثير غضب تنظيم نقابي -
جامعة "برينستون" تُلغي رسومًا دراسية -
أخوماش يعود بعد 10 أشهر من الغياب -
الحرارة تهدّد أمن الطاقة النووية بأوروبا -

ما جدوى الحجّ إن لم أتحوّل؟

ما جدوى الحجّ إن لم أتحوّل؟
ما جدوى الحجّ إن لم أتحوّل؟

أُهدي هذا المقال إلى روح أختي الطاهرة، نوال، التي انتقلت إلى جوار ربها فجر يوم الأحد 27 يوليوز 2025. رحمها الله رحمة واسعة، وأسكنها فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الحج ليس فقط تجرّداً من متع الدنيا ولا تطهيراً للنفس فحسب، بل هو تجربة روحية متكاملة، هو سمو روحي، وكشف للذات، هو عودة إلى الأصل. لهذا السبب، لم يكن غريباً أن يخلّد الكثير من الأدباء والمفكرين والمثقفين رحلاتهم إلى أرض الحجاز، ويوثقوها في كتابات باتت تُعرف بأدب الرحلة أو “الرحلات الحجازية”، لما تحمله من مشاهدات روحية وفكرية ووجدانية فريدة.

-1 تجربة الحج كمنطلق لتأمل الذات ومساراتها

لكن الكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة له اليوم، رَواء مكَّة (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، الطبعة السابعة،2023) للمثقف المغربي حسن أوريد،لا يندرج تماما في أدب الرحلات الحجازية، وإِنْ كانت رحلة الحج إلى مكة هي النواة المركزية التي يتبلور وينتظم حولها البناء السردي ويضفي عليه تماسكه. فرواية “رَواءُ مكة” ليست توثيقا ولا وصفا لرحلة الحج والسرد لا يتبع مسارا كرونولوجيا منتظما خاليا من المفارقات الزمنية كالاستشراقات والتقديمات والقفزات فالكاتب يتنقل كثيرا بين فترات زمنية متعددة تعود إلى الماضي، يستحضر طفولته، وشبابه، ومساره الروحي، والفكري. كذلك يحيل المعجم اللغوي لعناوين فقرات الكتاب كلها (ومضات- ذبذبات – همزات – إشراقات – البشائر – تداعيات – وكانت هجرة – الحنين إلى مكة) إلى حقل دلالي يعبر عن التجربة الذاتية الداخلية ترتبط بما هو روحاني صوفي وجداني تأملي. من هنا نعتبر رَواء مكة ليست تلفيظاً لرحلة الحج إلى مكة وإنما هي تلفيظ – إذا استعرنا هذا المفهوم من سعيد يقطين – لأثر رحلة الحج في نفس الكاتب. فهي تحكي عن تموجات ذاته وخواطره ويقوم بتأمل ذاتي في مسار حياته. يقول حسن أوريد”أنا هنا لأرصد تموّجات ذاتي لا لأنقل ملاحظات الحجيج، أو أرصد ما يعتمل أمام ناظري كما قد يفعل العالم الأنتروبولوجي”(ص98). وليس عبثا أو من قبيل المصادفة أن يشير حسن أوريد في مواضع عديدة من كتابه إلى رحلة الحج التي حكاها العالم المغربي الأنثروبولوجي عبد الله صمودي واحد من أبرزعلماء الأنثروبولوجيا في المغرب الذي يدرس الأنثروبولوجيا في جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكيّة في كتابه « Une saison à La Mecque » Editions du Seuil, Paris, janvier 2005.

(موسم في مكة). فالحج، بالنسبة للكاتبين، يشكّل تجربة شخصية وجودية عميقة، تنطوي على تحولات داخلية وأسئلة مقلقة. ورغم تباين السياقين واختلاف الأساليب، فإن التجربتين تتقاطعان في العمق وإِنْ اختلفتا في الظاهر. وسنفصِّل ذلك في حينه.

كذلك، لا يمكن اعتبار الرواية سيرة ذاتية، إذ إنها لا تتناول مجمل حياة المؤلف – الراوي، ولا يمكن تصنيفها ضمن ما يُعرف بالسيرة الروائية كما يصفها الكاتب نفسه على ظهر الغلاف. بل تقترب أكثر من أدب الاعترافات، حيث تنشغل بكشف التوترات الداخلية واللحظات الحاسمة في تشكيل الذات، من خلال سردٍ تأملي يركّز على البوح والانكشاف الوجداني، لا على التوثيق أو التسلسل الزمني للأحداث.

ويمكن إدراج هذا النص ضمن الأدب السردي الذي يقترب أكثر من أدب الاعترافات منه من السيرة الذاتية، لا سيما وأن الكاتب يَعِدُ قارئه منذ البداية بأن يبوح له بكل شيء، ويمنّيه بكشف الأسرار دون تحفظ. غير أنه سرعان ما يتراجع عن هذا الوعد، معلنًا أنه لا يقوى على البوح الكامل، وأنه سيكتفي بالدوران حول المعاني والتلميح إليها بدل التصريح بها (ص72).

هذه المفارقة بين الوعد والإنجاز تكشف عن توتر داخلي بين رغبة الكاتب في المكاشفة وقيود ذاتية أو اجتماعية تمنعه من ذلك، مما يجعل النص مساحة معلّقة بين الإفشاء والكتمان، بين الرغبة في الاعتراف والخشية من تبعاته.

-2 الحجُّ تجربةُ التحوّل : رحلة حسن أوريد من الغرب إلى الإسلام

رفض الكاتب عروضًا سابقة لتأدية فريضة الحج، إذ لم يكن مهيّأً لها نفسيًّا ووجوديًّا، ولم يكن يؤمن حينها بمعناها العميق. فالحجّ، بالنسبة إليه، التزام جادّ لا يُحتمل أن يُختزل في طقوس بلا معنى والاستهانة به. ليس سفرًا روحيًّا عابرًا، ولا انتقالًا مكانيًّا عاديا، بل وقفة تأمّل وإعادة نظر في الذات والحياة.

الحجّ، في نظر الكاتب، ليس مجرّد مناسك أو شعائر دينية، بل هو مسار وجودي عميق يتحقّق من خلال تحوُّل داخلي صادق. هذا التحوّل لا يُفرض من الخارج، بل ينبع من رغبة ذاتية وإرادة واعية في البحث عن المعنى. ولا يمكن لهذا التحوُّل أن يتمّ إلا إذا كانت النفس مستعدّة، بل مشتاقة، لأن تخضع لله بخشوع وإخلاص. فالدين، كما يتصوّره الكاتب، ممارسة وسلوك وانضباط يهدف إلى إحداث تغيير داخلي في نفس المؤمن، بحيث يصبح التوجّه إلى الله توجّهًا صادقًا خالصًا، يشمل الجسد والروح معًا.

ما جدوى أن أنفرْ إلى مكة حاجًّا وأزور المدينة إِنْ لم أتحوَّل” (ص 19) »

إنّ الحجّ عند حسن أوريد تجربة روحية وفكرية ووجودية، تتجاوز المعنى الديني التقليدي. هو رحلة داخلية يتأمّل فيها الكاتب مساره الشخصي، ويواجه ماضيه، وينقّب في أعماقه عن ذاته الحقيقية. بهذه الروح، يصبح الحجّ مناسبة لاكتشاف الذات ومراجعتها، وسيلة للبحث عن المعنى، ومنزلًا روحيًّا وفلسفيًّا يُقيم فيه لا بالجسد فقط، بل بالروح والفكر أيضًا.

لهذا السبب، شكّلت تجربة الحج عند حسن أوريد قطيعةً حاسمة مع مرحلة من حياته، إذ مثّلت نهاية طور وبداية آخر. ففي شبابه، اتخذ من ملذات الحياة رفيقًا، ومن الغرب نموذجًا يُحتذى، بل إمامًا يُقتدى. سكن بيت الغرب، واحتضن منظومته الفكرية، وتبنّى مرجعيته وأسلوب حياته. غير أن هذا البيت بدأ يضيق عليه شيئًا فشيئًا. “لكن البيت الذي آويت إليه يضيق عليّ. فبنود العقد تضيق كل يوم، وربّ البيت لا يحترمها. يدعو لحقوق الإنسان ويغتالها. يطالب بالحرية ويمالئ الاستبداد. يدعو لحكم القانون ويغتني بالاستغلال” (ص28-29).

كان يظن أن الغرب طريق للتحرر من قيود الماضي، وعوائق التراث. فحسبه بيتًا للعقل والحرية والديمقراطية، لكنه اكتشف، بعد طول معايشة، أن هذا التصور كان وهمًا؛ اكتشف لاحقًا أنه لم يكن سوى سرابٍ. لقد تبيّن له أن العقل وحده لا يكفي ليمنح الحياة معنًى، وأن الإسلام، في جوهره، لا يتناقض مع العقل، بل يدعوه إلى التفكّر والتدبّر، ويرفض أن يكون العقل سيدًا مطلقًا، بل يريده شريكًا في فهم الوحي وتطبيقه.

ويأتي التحوّل في لحظة خاطفة، في ساحة المسجد الحرام، عند ختام شعائر الحج. هناك، بعد طواف الإفاضة والسعي، تنكشف الغشاوة عن ذهنه، ويشرق في قلبه نور الإيمان. الإيمان الذي لا يُدرك إلا بالقلب. “وأتممت الحج. كانت الكعبة المُشرَّفة لقاء، لقاء مع ذاتي… كان طوافي بحثًا، ولما أن فرغت سعيت، وبعد السعي، انزويت جانبًا أنظر إلى ما حولي وأتأمل حياتي… قد كان لحجي ألا يكون إلا شعيرة. وفجأة، نعم، وقع التحوّل في حياتي” (ص90).

هجر حسن أوريد بيت الغرب ليستقر في بيت الإسلام. “قد يضلّ الإنسان، يحيد عن الطريق المستقيم، يعييه البحث، لكن ينتهي به المسار إلى مصالحة مع ذاته، بالوقوف على ضعفه، وبالوقوف على حاجته الماسّة إلى معنًى للحياة” (ص98).

في هذا السياق، نستحضر كتاب “في منزل الوحي” لمحمد حسين هيكل (1888 – 1956م)، أحد رموز الليبرالية المصرية وروّاد جيل النهضة. قصد هيكل الحجاز بنيّة الحج واستيفاء بحثه في سيرة النبي ﷺ الذي بدأه عام 1931 بكتاب “حياة محمد”. آمن هيكل بالحضارة الغربية وقيمها، غير أن التجربة بيّنت له، كما بيّنت لاحقًا لحسن أوريد، أن الغرب لا يحرّكه إلّا منطق المصالح، وأن القيم الإنسانية التي يبشر بها ويرفع شعاراتها في وجه المستعمرات سرعان ما تتوارى حين تتعارض مع مكاسبه الاقتصادية والسياسية. ومع أنّه نهل من الغرب، وتعلّم في جامعاته، واحتكّ بثقافته، خلص إلى أن للغرب وجهين متناقضين، وجه استعماري امبريالي قائم على الاستغلال والاحتكار والهيمنة، ووجه يمثل قيم الحداثة والحضارة، والتقدم، والعلم، والحرية. لكن، بخلاف أوريد، لم يهجر هيكل بيت الغرب كليًا. فعلى الرغم من ارتحاله إلى “منزل الوحي” مهد العروبة والإسلام، ظل وفيًّا لقيمه الليبرالية، مؤمنًا بالعقلانية والانفتاح. كانت عودته إلى التاريخ الإسلامي تعبيرًا عن إيمان ديني عميق يتوسل فهمه وفق المنهج العلمي الحديث.

لقد كان هيكل، شأنه شأن روّاد النهضة من أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم، يرفض الجمود العقلي ويدعو إلى نهضة عربية عقلانية، تُزاوج بين الإيمان والعقل، وتؤسّس لمصالحة بين التراث والحداثة.

والواقع أنّ التحوّل الذي عرفه أوريد لم يكن وليد لحظة مفاجئة، بل سبقته إرهاصات عديدة ومقدمات نضجت ببطء. فقد ساهمت المناصب التي تقلّدها كعاملٍ والٍ على جهة مكناس تافيلالت والامتيازات المرتبطة بها من جاه وسلطة ومتع، في صقل تجربته وإعادة مساءلة الذات. ثم جاءت حرب العراق سنة 2003 لتعزّز شعوره بالانتماء إلى الإسلام، وتحرّك أسئلة الهوية والانتماء. كما شكّلت زيارته للأندلس عام 1997، وخصوصًا إلى إشبيلية وقرطبة، نقطة تحوّل مفصلية؛ فالمكان الذي قصده للسياحة تحوّل إلى فضاء تأمل ومصالحة مع الحضارة الإسلامية. وفي قصر الحمراء، تجسدت أمامه تمثّلات حضارة إسلامية راقية في معمارها وروحها، فتتسع رؤيته، ويدرك أن هذه الحضارة لم تكن منغلقة ولا معزولة عن أوروبا، بل كانت جزءًا من تاريخه المشترك.

غير أن تجربة أوريد، التي تبلورت في إطار مسار تأملي فردي، تختلف في جوهرها عن تجربة عبد الله حمودي كما وصفها في كتابه السابق الذكر موسم في مكة « . عاش حمودي تحوّلًا داخليًا عميقًا أثناء أداء فريضة الحج، لكن تحوّله لم يكن فرديًا خالصًا، بل تحقق من خلال ارتباطه بالجماعة، وذوبانه في سيل الحجاج.

هناك، أمام المسجد الحرام، لم يعد حمودي مجرد باحث أنثروبولوجي يراقب الظواهر من الخارج، بل أصبح حاجًّا مندمجًا في الجماعة، مشاركًا إخوانه الطواف والصلاة، خاشعًا باكيًا كجميع الحجاج كمن وجد ذاته في إيمان الجماعة. تتحول الأنا إلى “نحن”، ويجد الباحث في صوته الفردي صدى في أصوات الحجيج. في تلك اللحظة، يصبح اللقاء بالله فعلًا جماعيًّا، يتحقق عبر الالتحام بالمصير المشترك والانصهار في الجماعة.

غيّرت تجربة الحج عبد الله حمودي لا لأنه زار الكعبة فقط، بل لأنه حقق التواصل الروحي والارتباط الوجداني مع حشود الحجاج. تلك السعادة التي غمرته في المدينة المنوّرة لم تكن مجرّد لحظة وجدانية عابرة، بل كانت ولادة جديدة، تصالحًا مع الذات عبر الجماعة، عودة إلى البيت الحقيقي، البيت الروحي الذي تتّسع فيه الذات وتتسامى.

في النهاية، الجماعة هي التي منحت تجربة حمودي معناها، وهي التي ربطت الباحث بالحاج، على خلاف تجربة أوريد التي مثّلت رحلة فردية في طلب المعنى

-3 اللغة والهوية والإسلام في رَواء مكَّة

يولي حسن أوريد أهمية خاصة لمسألة اللغة إذ لا يعتبرها مجرد أداة للتواصل أو وسيلة لنقل الفكر، بل هي تعبير عن رؤيته الفكرية وتحمل قيم الهوية والتاريخ والحضارة. إنها مدخلاً لفهم الهوية، لا بوصفها محدِّدًا حصريًا لها، بل كأداة تعبّر من خلالها الذات عن تعددها الثقافي وتفاعلها مع العالم.

النص السردي زاخر بالاستشهاد بالقرآن الكريم (يستهل سيرته بالآيات 53-55 من سورة الزمر، ويختمها بالآية 29 من سورة الفتح)، إلى جانب إحالات متعددة إلى الشعر العربي، خصوصًا القديم، وأشعار وأناشيد بالأمازيغية والدارجة، فضلًا عن أبيات من ديوان الشاعر الإيرلندي ويليام بتلر ييتس، يحرص الكاتب على ترجمتها جميعًا إلى اللغة العربية. كما يتخلل النص استعمال لعبارات وجمل بالفرنسية.

كل هذه الإحالات المتجاورة داخل المتن السردي لا تأتي اعتباطًا، بل تخدم مقصدًا واضحًا: التأكيد على أن الهوية الثقافية لا تُختزل في لغة واحدة، وإن كانت اللغة عنصرًا مكوِّنًا أساسياً لها. فالهوية، كما تتجلى في هذا النص، تُبنى على التعدد والانفتاح، وعلى التفاعل الحيّ بين المحلي (الأمازيغي، الصوفي، الشعبي)، والوطني (العربي الإسلامي)، والعالمي (الفرنسي والإنجليزي).

هذا التعدد ينعكس أيضًا في طبيعة اللغة العربية نفسها، التي لا تظهر هنا كلغة منغلقة أو مكتفية بذاتها، بل كلغة تتسع لغيرها، وتتفاعل وتُترجم وتُعيد إنتاج المعنى من خلال الآخر. لا يفرض الكاتب قيدًا لغويًا أو هوياتيًا، بل يدعو ضمنيًا إلى نموذج هوية منفتحة، حوارية، مركبة، تُكتب بلغات متعددة، لكنها تتجه دائمًا إلى جوهر الإنسان وأسئلته الكبرى، بعيدًا عن التقوقع والانغلاق.

ينقل حسن أوريد إلى قارئه مشهدًا روحيًا رمزيًا يعود إلى مارس 2002، يحدث داخل دير راهبات في ضواحي بيروت، حيث يصوّر جموع الرهبان المسيحيين وهم يتلون صلوات الصفح والغفران بلغة الضاد. وهي صورة تُجسّد المعنى العميق للغة العربية بوصفها لغة جامعة، لا تنتمي حصريًا لجماعة دينية، بل تمتلك طاقة رمزية على احتضان التعدد والاختلاف، وتمثل جسرًا للتواصل بين الأديان والثقافات، لا أداةً للفرقة والانغلاق.

وكأن الكاتب يؤكد هنا أن الهوية ليست مرادفة للغة، وإن كانت جزءًا من مكوّناتها، تمامًا كما أن اللغة العربية، حين تُتلى بها صلوات مسيحية على ألسن غير مسلمة، لا تظل حكرًا على الإسلام، بل تتحول إلى وعاء جامع للهويات المتعددة، لغة منفتحة تحتضن التعايش والاختلاف والتسامح، وقادرة على مدّ الجسور بين الأديان والثقافات.

كذلك حين يُصرّح حسن أوريد بأنه “مسلم باللغة الفرنسية”، فإنه لا يحدد انتماءه الديني فقط، ولا يحصر هويته في لغته الأم الأمازيغية أو العربية التي يكتب بها، بل يُفصح عن انتماء حضاري أوسع يستمد جذوره من الإسلام كأفق إنساني كوني. فاللغة التي يعبّر بها عن إيمانه ليست جوهرًا للهوية، بل وسيلة للتعبير عنها، في حين أن الفهم الصادق لروح الرسالة الإسلامية هو ما يضفي على هذا الانتماء عمقه الحقيقي.

بهذا المعنى، تصبح اللغة أداة للتواصل والتفكير، لا مرجعية حصرية للهوية. ويغدو الإسلام، في نظر أوريد، إطارًا حضاريًا جامعًا يُعيد من خلاله تعريف ذاته في عالم متغير، تتجاذبه صراعات الهوية والانتماء. فالإسلام لا يُختزل في اللغة العربية، كما أن الهوية لا تُختزل في اللغة وحدها، بل تظل رسالة موجهة إلى الإنسانية، يستطيع كل إنسان أن يتفاعل معها من موقع لغته وثقافته، ما دام قد لمس روحها وفهم مقاصدها.

من هذا المنظور، ينتقد أوريد حصر الخطب والدروس الدينية في اللغة العربية، خصوصًا خلال شعائر كونية كالحج، حيث يجتمع المسلمون من كل الآفاق. فهذا الاقتصار يُقصي غير الناطقين بالعربية من التفاعل الكامل مع مضامين الشعائر، ويُضعف قدرتهم على فهم عمق العبادة ومقاصدها.

لذلك، لا تمثل اللغة الفرنسية لديه عقدة ثقافية أو عائقًا هوياتيًا، بل تندرج ضمن أدوات التعبير والانفتاح، تمامًا كما عبّر الكاتب الجزائري كاتب ياسين عن الأمر حين وصفها بأنها “غنيمة حرب”. إنها لغة يمكن أن تُوظّف في خدمة الإيمان، والتفكير، والحوار الحضاري.

-4 مفارقة فصاحة اللغة ومتطلبات السرد في رَواء مكة

يتأسّف حسن أوريد على ضياع فصاحة اللغة العربية وإهمال عبقريتها، وعلى التخلي عن قيم العروبة الأصيلة، تلك القيم التي تمثّل المروءة والجود والإباء. فاللغة الضعيفة الركيكة، في نظره، ليست مجرد حالة لغوية، بل علامة على فقدان الانتماء وابتعاد العرب عن مجرى التاريخ، وانسحابهم من المساهمة في الحضارة الإنسانية المعاصرة. إنها أعراض لأمراض تنخر جسد العروبة وهويتها.

فبينما كان يحضر مؤتمر كوالالمبور عام 2003 حول حرب الخليج، لاحظ بمرارة أن عرباً أقحاحاً يجهلون لغتهم، يتحدثون “لغة ركيكة مجتثة من جذورها، من عبقريتها، مقطوعة عن نبعها الصافي الأول… لقد تعرضوا لعملية تفسخ، أو ضوًى (حسب تعبيره) — وهو ما أسعى لترجمته بكلمة Dégénérescence — ليس فقط ثقافيًا بل اجتماعيًا أيضًا” (ص51).

من هذا المنظور، لا يبدو تمسك حسن أوريد باستخدام العربية الفصحى في كتاباته أمرًا اعتباطيًا، ولا التزامه باختيار ألفاظ فصيحة مستلهمة من المعاجم القديمة مجرّد ترف لغوي أو استعراض لثراء قاموسه التراثي. بل إن هذا الاختيار يشكل موقفًا فكريًا راسخًا: هو كتابة مقاومة للنسيان، وللركاكة، والابتذال، والسطحية، وللتبسيط المخلّ، والرداءة اللغوية، وضد الانفصال عن الجذر الحضاري واللغوي. إنها كتابة تعيد إلى الأصل، إلى النبع الصافي الأول. وكأن الكاتب، من خلال لغته، يحاول استعادة الوصل المقطوع مع الجذر الأصيل، وتحرير ذلك الرابط الذي تآكل عبر الزمن.

ومع ذلك، فإن التزامه بهذا الخيار اللغوي، المعتمد على ألفاظ فصيحة لكنها مهجورة ونادرة التداول، تسكن المعاجم وتنام على رفوف المكتبات دون أن تنبض بالحياة اليومية، يقوده إلى مفارقة دلالية وسردية، تتجلى في مقطع مثل هذا:

“كنتُ من المُقْمَحين. كم مرة مررت على الكلمة ولم أهتدِ لمعناها، كما مررت على الحياة ولم أنفذ إلى غايتها؟ هل تدري، يا صاح، ما المُقمح؟ هي البعير حين تُغَلُّ أغلالاً تشد رأسها وتمنعها من أن تَرِد الحوض.. هي ترى الماء، لكنها لا تهتدي إليه لأنها لا تستطيع النزول إليه. كنتُ مُقمحًا، رافع الرأس، أَأبى أن أنحني، مُعتدًّا بعقلي ووضعي.. فلمّا انحنيت ارتويت.. كان انحناءً، وركوعًا وسجودًا لأنهل من نبع ضافٍ يسبغ على حياتي معنى، ويُسرّي عني من كروب الدنيا، ويمدّني بالقوة، ويمنحني العزة والكرامة…” (ص145).

في هذا المقطع، يضطر الكاتب إلى التوقف لشرح الكلمة وإزالة غموضها، فالكلمة “مُقْمَح” فصيحة وأصيلة، لكنها فقدت حضورها في الاستخدام اليومي، وتحتاج إلى تفسير لكي يستقيم المعنى وتستمر حركة السرد. وهذا الشرح، مهما كان مهمًا، يوقف انسيابية النص ويضعف العفوية والصدق في التعبير، خاصة في نص سردي تأملي يميل إلى البوح والمكاشفة ومراجعة الذات، حيث تتطلب اللغة صدقًا وحرارة وعفوية أكثر من مجرد عراقة الألفاظ وبلاغة المعجم.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق خطة إسرائيلية للسيطرة على غزة.. نتنياهو واليمين المتطرف يخططان لابتلاع القطاع (فيديو)
التالى الزمالك يصل ستاد هيئة قناة السويس استعدادًا لمواجهة سيراميكا كليوباترا