أخبار عاجلة
مسلسل ليلى الحلقة 40 والأخيرة.. وفاة نور -

لحجمري ينجذب إلى الكتابة عنِ "الهيب هوب" والملح والقهوة الصباحية

لحجمري ينجذب إلى الكتابة عنِ "الهيب هوب" والملح والقهوة الصباحية
لحجمري ينجذب إلى الكتابة عنِ "الهيب هوب" والملح والقهوة الصباحية

في نهاية كل يوم، حين نعود إلى دفاترنا الصغيرة، نكتفي بتسجيل الأحداث العابرة، أيْ تاريخا خاصا لذواتنا، نُعيد فيه ترتيب الفوضى الداخلية، ونرسم حدود الوجود كما نحياه. هذه الكتابة اليومية، التي قد تبدو بسيطة أو رتيبة، هي في حقيقتها مدرسة عميقة للفكر والحس، تعلّمنا كيف نرصد تفاصيل الحياة، نُمسك بأهداب اللحظة، ونصوغ منها خيوطا تتشابك لتصبح نصا ينبضُ بالحياة والصدق. ولعل من أجمل ما يُمكن أن يتعلمه المرءُ اليوم هو هذا الفن: كيف يتحوّل اليومي إلى تأمل، وكيف تتشكل الكلمات من نبض الذات. لعل مناهجنا التعليمية تحتاج إلى إعادة النظر، لتمنح الكتابة اليومية مكانتها الحقيقية، ليس باعتبارها واجبا رتيبا، وإنما بوصفها مسارا يفتح الأبواب أمام عالمنا الداخلي، ويرسخ قدرة الإنسان على التعبير، وعلى الوجود.

إليكمْ بعضَ ما كتبتُه هذا الأسبوع:

افتحُوا النوافذ… الهِيبْ هُوبْ قادمٌ بشهادة تربوية

إذا كان التاريخ المدرسي قد علّمنا أن “نظرية الأعداد” أقدس من النظر في وجوهنا المتعبة، فإن الوقت قد حان لنفتح صفحة جديدة في المقررات، عنوانها: الهِيبْ هُوبْ. لا شيء أكثر ضرورة اليوم من أن يدخل هذا الفن، الذي طالما نُظر إليه بشك وريْبة إلى المؤسسات التعليمية، لا بوصفه دخيلا على القيم، وإنما بوصفه راويا لحقيقتها العارية. في قاعة الدرس، حيث الصمت يشبه الجنازات، والمعلومة تنزل مثل الحُكم القضائي، سيكون للهيبْ هوب دور المنقذ، لا في الترفيه، وإنما في التربية على الجُرأة. كيف نعلم تلاميذنا التعبير عن أنفسهم في عالم يطالبهم بالصمت؟ الجواب: نعلمهم أن “يرابوا”، أن يسحبوا الميكروفون الرمزي من يد المناهج العقيمة، ويقولوا للعالم: نحن هنا، نكتب نصنا.

حين يدخل الهيبْ هوب إلى الفصل لا يكون مجرد مادة تكميلية بقدر ما يغدو تمرينا حيًّا على استعادة الصوت الشخصي وسط ضجيج المقررات الجاهزة. الكلمة، التي كانت في السابق تمر من خلال المناهج والمذكرات، تخرج هنا من أعماق التلميذ. في هذا السياق، لا يُطالب التلميذ بإتقان جواب نموذجي، وإنما بالإنصات إلى ما يخالج تجربته الخاصة. يكتب نصه كما يكتب أحدهم رسالته الأخيرة إلى العالم، ويلقيه أمام أقرانه دون وسْوَسة الخطأ أو القلق من النقطة، وإنما بثقة من يعي بأن صدق الإحساس يسبق كل تقويم. في هذا المشهد، يعني التصفيق أن الجميع قد سمع الحقيقة تُقال للمرة الأولى، بصوت بشري لا بلسان تربوي مُعقم.

ليس الهيبْ هوب ضيفا في حجرة الدرس، إنه ذلك التلميذ الذي ظل يُطرَد من القسم لأنه “يزعج النظام”. في الهيبْ هوب تُنتزع الكلمات من قلب الواقع كما هي: غاضبة، ساخرة، دامعة، أو حتى بذيئة. إنه منبر من لا منبر له، وسبورة من لا مكان له في الصف الأول. حين يدخل الهيبْ هوب المدرسة، لا يتأنق في اللغة، لكنه يلبسها كما هي في الشارع: ممزقة أحيانا، زائدة أحيانا، ناقصة غالبا… لكنه رغم كل شيء، يقول شيئا لا تقوله الكُتب. ومن لم يفهم الدرس، فليُعِد الاستماع، لا القراءة. بالتأكيد، سيتطلب تدريس الهيبْ هوب وجود أساتذة من طراز مُختلف، لا يحملون السبورة أو الأقلام، وإنما يحملون الإيقاع والحضور الصوتي. لن تُوزع أوراق الإعراب المملة، ستُمنح بالمقابل فروض تعبر عن الغضب المكبوت والاحتجاج المكتوم. لا يعني ذلك انزلاقا نحو الفوضى، إنه بناء نظام لغوي جديد، يحكمه معنى الحياة لا قواعد النحو الجامدة.

لا يقتصرُ دور المفتش على تقييم الأساليب النحوية أو سلامة العبارات؛ بيد أنه يمتد إلى الاستماع بحرص واهتمام حقيقيين. إذا غادر الفصل وهو يهز رأسه بتمايُل إيقاعي مع الكلمات، فهذا دليل نجاح لا يخطئه سوى من غاب عن فهم جوهر الهيبْ هوب. أما إن خرج متجهما، فربما لم يدرك أن الهيب هوب ليس مادة جامدة تُدرس، وإنما موقف ينبض بالحياة والتعبير الأصيل. لذلك، المدرسة التي تدرس الهيبْ هوب هي مدرسة تعرف أن الكلمة تفتح نوافذ، وأن الإيقاع نظام داخلي لفهم الفَوضى، وأن التلميذ ورقة مُجعدة كتبتها الحياة، ويكفي أن نطلب منه قراءتها بصوته؛ وربما حينها فقط، نفهم أن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من الوزارات بقدر ما ينطلق من مقطع رَابْ صغير قاله طفلٌ خَجُول في الصف السادس، وجعل كل من في الفصل يصمتون، ثم يصفقون، ثم يضحكون، ثم… يتعلمون.

لن يُصلح الهيبْ هُوب النظام التعليمي؛ لكنه على الأقل سيجعله يتكلم لغة مفهومة، وسيسمح للتلاميذ بأن يقولوا شيئا عن حياتهم قبل أن يُطلب منهم فهم حياة نابليون. أليْسَ من المدهش أن يكون الهيبْ هوب أكثر وعيا بنحْوِ الواقع من دروس اللغة؟ أن يكون البيت الغنائي أكثر تركيبا من الأمثلة الصفية؟ هل الراب والهيب هوبْ شعر؟ نعم. هل هو أدب؟ نعم. هل هو أداة تعليم؟ ليس دائما، لكنه بالتأكيد وسيلة لاكتشاف الذات. أليس هذا غاية كل تعَلم؟

أما من يرفع راية “الهيبْ هوب” بفخر، فليتذكرْ وليعْلمْ أن الإيقاع بلا مضمون، والضربات بلا تأمل، تبقى أصواتا تملأ فراغا لا يُشبع الروح. في آخر تحديث للمقررات “المواكِبة”، صار من الطبيعي أن نجد مادة “الهيبْ هوب التعبيري” تتقدم على دروس البلاغة والنصوص، باعتبار أن القافية العشوائية وارتداء السلسلة الثقيلة أكثر تأثيرا من تحليل المتنبي أو فهم الجرجاني. في القسم، لم يعد الأستاذ يشرح بيتا من الشعر، وإنما يشرح كيف “يسقط البيت” في المعركة الكلامية، وكيف تكون الشتيمة المركبة فنا لغويا قائما بذاته. ويُطلب من التلميذ أن يحفظ “البيت” ليرد به على خصمه في مناظرة بلا موضوع، ولا نهاية.

في حصة التقييم، يُمنح التلاميذ ثلاث دقائق ليُبرهنوا على قدرتهم في توليد الغضب، وتقطيع الجمل إلى أنصاف غير منسجمة. والمُذهل هو أن الأهل صاروا فخورين: “ابني لا يحفظ جدول الضرب؛ لكنه يحفظ أسماء عشرين مغني “هيبْ هوب” ويُقلدهم بإتقان… لقد أصبح فصيحا!” هكذا، تكتمل الحلقة: لا حاجة إلى تعليم الفكرة إذا كان بالإمكان تكرار الضجيج.

الطاهي الذي رشّ الملح على عُقولنا

كان الملحُ مادة بسيطة، تُستخدم بصمْت لضبط ذوق الطعام دُون أن تثير الشبهات، حتى نزل علينا Salt Bae من كوكب “إنستغرام”، بنظارات شمسية في عز العتمة، وكأنه جاسوسٌ متقاعد قرر أن يكشف للبشرية السر العظيم: كيف تُرش ذرات الملح وكأنها قصيدة حب على خاصرة لحم مشوي. لم يكن يرش الملح، كان يُلقي خطابا بصريا في مسرح الجنون الكوني. من هو هذا الكائن؟ ولماذا يُعامل قطعة اللحم كما لو كانت مخطوطة أثرية؟ ولماذا كل هذه العضلات؟ هل سيصارع اللحم قبل طهيِه؟ أم أنه يخشى هجوما مفاجئا من بطاطس مقلية متمردة؟

الرجل يفتح مطاعم في كل بقعة على الأرض كما لو أنه يخطط لاجتياح كَوْني، وأينما حل، تُسجل شرائح اللحم أرقاما قياسية في أسعار الصدمة النفسية. أنت لا تدفع مقابل الأكل، وإنما مقابل العيش في اللحظة السحرية التي يسقط فيها الملح من كوْعه كما تسقط الحضارات.

في مطعمه، يهمس اللحم: “خذوني إلى الثلاجة”، ويهمس الزبون: “خذوا راتبي كله”، ويهمس الملح: “أنا مجرد بهار، لماذا تضعون علي كل هذا الضغط الفلسفي؟”.

وبينما العالم يناقش تغير المناخ، وفوضى الاقتصاد، وخطر الذكاء الاصطناعي، يظل Salt Bae منشغلا بكيفية تقويس المعْصم بدقة تجعلك تظن أن الشيف قد تدرب في سيرك روسي، أو تلقى تعليمه في أكاديمية فنون الرش العشوائي؛ ذلك أن بعض نظريات المؤامرة تشير إلى أن رش الملح بهذه الطريقة يفتح أبعادا أخرى، أهمها بابُ حسابك البنكي وهو يصرخ: “لااااااااااااااااا!” حتى الملاعق في مطعمه تبدو وكأنها قد خضعت لعملية تجميل، واللحم يُقدم على سَيْف، في إشارة واضحة إلى أننا ضحايا حرب ناعمة يقودها الشواء المتغطرس.

Salt Bae لا يضْحَكُ، ليس لأنه صارم أو جاد، وإنما لأنه يعرف في قرارة نفسه أن العالم قد ضل طريقه منذ اللحظة التي قرر فيها الجميع الوقوف لساعتين في طابور، فقط ليقفوا أمام رجل يرش الملح… وكأنه يوزع علاجا سحريا، أو يرسل إشارات سرية إلى العالم المتعب. هو لا يضحك لأنه يعلم أن هذه الرقصة الطقسية الملحية ليست مجرد لعبة، بقدر ما هي مرآة ساخرة تقول لنا: كمْ صرنا نبحث عن المعنى في أبسط الأشياء، حتى لو كانت رشة ملح.

إذا رأيتَ في المنام شخصا يرش الملح من كوعه، لا تقلقْ… لقد وصلت الإنسانية إلى نقطة اللاعودة. أنت فقط تعيش في عصر Salt Bae، حيث أصبح الطعام عرضا بصريا، والنكهة خيارا ثانويا، والعقل… مجرد مُقبلات. ففي عالمٍ يعاني من نقصٍ حاد في الفيتامينات العقلية، خرج علينا هذا الرجل وهو يرش الملح كما لو أنه يوقع على إعلان استقلال جديد عن الذوق السليم. معه لا نأكل اللحم، فقط نتناولُ فكرة عن اللحم، مزينة بعضلات مطلية بزيت الزيتون، وأحلامٍ مُتَبلة بسِيلْفي مع نجم كرة قدم يبدو عليه الندم.

إنه لا يضحَك، لأنه يعرف السر: في عصر ما بعد الحقيقة، لا أحد يسأل عن الذوق، لكن يسأل بدل ذلك عن عدد المتابعين على “إنستغرام”، وما دام اللحم ينزف جمالا بصريا، فلا بأس إن كان مالحا كذكرياتك العاطفية. والمفارقة الكبرى؟ نحن لا نسخر منه، بل من أنفسنا؛ نحن الذين صدقنا أن اللحم يتغير بطقوس التقديم… هنا يكمن جوهر المأساة: لقد أصبحنا جمهورا يصفق لطباخ لأنه يعرف كيف يرش الملح، بينما نحن لا نعرف حتى كيف نقرأ مكونات ما نأكله.

يا Salt Bae ، رش الملح كما تشاء، فنحن اليوم شعبٌ مدمنٌ على الطعم المالح، لأننا فقدنا قدرة التمييز بين المذاق والصدق، بين الرشة والواقع. نلتهم الحياة كما نلتهم أطباقنا، نبحث عن النكهة في حركات استعراضية، وننسى أن الحقيقة ليست شيئا يُرش، وإنما شيئا يُعاش. رشْ، ولا تنسَ أن كل رشة تُبعدنا أكثر عن طعم الحياة الذي خسرناه، ونحن نبتلع كل شيء، حتى الغش والخيبة… كأننا نطرد المرارة برشة ملح! هكذا، أصبح الملح هو البطل الحقيقي في كل طبق، وكأننا نحاول أن نُخفي به نكهات الحياة المرهقة التي لا نحبها، تماما كما نرش الأكاذيب الصغيرة على الأخبار لتبدو أكثر قبولا.

هل نحن، فعلا، نحتاج إلى رشات الملح هذه لنصحو؟ أم أننا فقدنا القدرة على التذوق الحقيقي؟ وهل نحن بحاجة حقا إلى كل هذه الرشات؟ هل كانت حياتنا أفضل عندما لم نكن ننتظر لحظة رش الملح تلك؟

الذين لا يقدسون الرشفة الأولى… يخونون أنفسهم مبكرا

في الصباح، حين تسقطُ أول خيوط الضوء ينسى الإنسان كل شيء: المواعيد، الديون، الزوجة الغاضبة. لكن هناك شيئا واحدا لا يُنسى أبدا، بل يُتوق إليه كما يُتوق إلى النُسْك: فنجان القهوة الأول. ليست المسألة في الكافيين؛ ذلك المسكين الذي تحمل فوق طاقته كل أوزار المدنية الحديثة. الرشفة الأولى تحديدا، تلك التي لا ينبغي لأحد، أيا كان، أن يشاركك إياها. إنها رشفة عذرية، بكامل المعنى الساخر والرهيف للكلمة. فنجان القهوة الأول نطهر به ما تبقى من الكوابيس، ونستعيد به الوصايا العشر للحياة: لا تتكلم قبل القهوة، لا تفكر قبل القهوة، لا تُحب قبل القهوة، لا تعتذر، لا تُجادل، ولا تكُنْ.

القهوة الأولى لها طنين خفيف، إنها الترجمة السوداء للحكمة. ما إن تمتد اليد نحوها، حتى يتوقف التاريخ عن الجريان. ويُعلق القانون الفيزيائي للجاذبية: لا شيء يسقط، لا شيء يطفو. حتى العقل نفسه يتراجع خطوتين إلى الوراء، ليفسح المجال لحاسة أكثر نبلا: التوق.

أول رشفة قهوة في الصباح فعل مقاومة. مقاومة للاستيقاظ، للنهار، للأخبار، لوجوه الناس في وسائل النقل، لكل ما يُسمى “حياة يومية”. نحمي هذه الرشفة كما لو كانت سرا عسكريا. نحاصرها بالصمت، بالابتعاد عن الهاتف، وبالرفض القاطع لأي حوار، مهما كان وجوديا، حتى كلمة “صباح الخير” تبدو فجة في حضرتها.

ربما نُقدس هذه الرشفة لأننا نشك في أن ما يليها مجرد تقليد ممل. كوب القهوة الثاني؟ إنه ارتداد. الثالث؟ استهتار. أما الأول، فهو الأصل، هو العلة الأولى لكل نشاط لاحق.

تأملْ كيف نشربها. لا نفعل ذلك بتهور. نرفع الفنجان كما يرفع الكاهن الكأس المقدسة، نميل رؤوسنا كما لو أننا نُنصت إلى موسيقى خفية. نتذوقها، لنتذكر أننا أحياء.

ثم تأتي الفلسفة. نعم، كل من يشرب القهوة في الصباح يتحول إلى فيلسوف مؤقت. يحدق في البخار المتصاعد كما لو أنه يقرأ إشارات الغيب، ثم يطلق حكما عظيما على شكل: “العالم فوضى”.

ويواصل الرشف. لذلك، يقال إن أعظم القرارات في التاريخ اتخذت صباحا مع أول رشفة قهوة. نابليون، مثلا، لم يبدأ معركته إلا بعد أن قال: “دعني أحتسي قهوتي، وبعدها أفكر في سحق أوروبا”.

لو تأملت في وجوه الناس أثناء شربهم القهوة الأولى، لوجدت شبها مرعبا: الجميع يبدون كأنهم وصلوا لتوهم من معركة طويلة ضد الكوابيس، ويحتاجون إلى دفعة معنوية سوداء. إنها لحظة ما قبل الإنسان؛ القهوة تحولنا من كائنات شبه واعية إلى كائنات قابلة للتعامل مع جدول الأعمال.

ولهذا، فإن من يجرؤ على الحديث أثناء هذه الرشفة يستحق عقوبة أخلاقية. يجب أن يُمنع من الاقتراب من الحضارة لساعة على الأقل؛ لأن التدخل في طقس القهوة الأولى يُعادل مقاطعة شاعر أثناء كتابته بيتا مدهشا. العجيب هو أننا، دون اتفاق مسبق، نمارس هذا الطقس عالميا. لا أحد علّمنا كيف نقدس الرشفة الأولى؛ لكنها تسللت إلينا كما تتسلل البصيرة إلى العقل. ربما لأن القهوة تحتوي على شيء لم تُفكك عناصره بعد. مادة غير مرئية تعيد للزمن صبره، وللنفس استقامتها المؤقتة. ولهذا، نقول دائما: “دعني أرتشف قهوتي ثم أتكلم”. كأن الحديث قبلها خيانة للوجود، أو نوع من الانتحار البلاغي. هل لاحظتَ أن القهوة تُعلمنا التريث؟ لا نشربها دفعة واحدة، وإنما على مراحل. كأننا نتعلم أن نأخذ اليوم على جرعات. وفي هذه الرشفة بالتحديد، ندرك هشاشتنا. فنحن لا نطلب الكثير من الحياة: فقط فنجان، قليل من السكينة، وهدوء يكفي لإنهاء الفنجان دون تدخل بشري. إنها اللحظة التي يلتقي فيها الجسد بالعقل عند نقطة محايدة: لا هو نائم، ولا هو يقظ تماما. إنها برزخ، ولحظة عبور، تستحق الاحترام لا التشويش. ولهذا، فالقهوة الأولى ليست حاجة بيولوجية، بقدر ما هي احتياج روحي. ومن المفارقة أن أول رشفة قهوة، رغم صغرها، قد تحدد مزاج يوم كامل.

فهل فكرنا، يوما، لماذا تُشرب القهوة الأولى بصمت يشبه صلاة خافتة؟ ولماذا نغضب ممن يقطع علينا تلك اللحظة، كما لو أنه اقتحم أحلامنا بلا استئذان؟ هل حقا نحتاج إلى الكافيين، أم أننا نحتاج إلى وهم الانتظام الذي تمنحه لنا الرشفة الأولى؟ أليست القهوة، في نهاية المطاف، ذريعة صغيرة لنؤجل الانهيار؟ ولماذا تبدو الحياة أكثر احتمالا بعد فنجان، رغم أنها لم تتغير؟ أيمكن أن تكون القهوة الأولى مرآة نرى فيها هشاشتنا ونكتم ضحكتنا؟ أم أنها ببساطة آخر طقس سري لم تدنسه السرعة، ولم تطله يد التطبيقات؟

لكن قلْ لي: ما السر في هذه الرشفة الأولى التي لا نقوى على التنازل عنها؟ لماذا تبدو بسيطة في ظاهرها، ومع ذلك نحميها بشراسة كما لو كانت آخر ما تبقى لنا من السيادة الشخصية؟ أهي القهوة فعلا، أم أننا نشرب فيها شيئا آخر: كبرياءنا المتعَب، صمتنا الأنيق، كسلنا الفلسفي؟ ولماذا نحب أن نشربها وحدنا؟ هل لأننا لا نريد شهودا على ضعفنا الصباحي، أم لأننا لا نثق بمن لا يفهم معنى التأمل في وجه فنجان؟ من قال إن الدين يبدأ في المعابد فقط؟ أليس في طقس القهوة الأولى شكل من أشكال الإيمان… بأن النهار يمكنُ ترْويضُه؟

لنتأمل، وإلى حديث آخر.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق محامي وفاء عامر ينفي شائعة السفر بالكامل ويكشف تواجدها في مصر
التالى خطة الحكومة لتنمية أهم مصادر الدخل الدولاري لمصر من الخارج.. شوف إيه اللي بيحصل