استأثر الشق الاقتصادي الذي استهلّ به الملك محمد السادس خطاب “عيد العرش” في ذكراه السادسة والعشرين، مساء أمس الثلاثاء، باهتمام واسع في أوساط الخبراء والأكاديميين الاقتصاديين المغاربة، خاصة في سياق إشادته بالمنجز في قطاعات استراتيجية، والعمل المتواصل لـ”بناء اقتصاد تنافسي، أكثر تنوعا وانفتاحا، وذلك في إطار ماكرو-اقتصادي سليم ومستقر”.
ولم تخطئ عيون محللين، استطلعت جريدة هسبريس آراءهم، دلالات الإشارة الملكية الصريحة إلى وجوب “تثمين المؤهلات الاقتصادية الجهوية”، والتشديد على تقاطعات انتظامية النمو الاقتصادي مع انعكاس آثاره على معيش المواطنات في مختلف ربوع وجهات الوطن للقطع مع منطق “المغرب السائر بسرعتيْن”.
رسائل و”نقد”
محللا مضامين الخطاب الملكي لعيد العرش 2025، قال إدريس العيساوي، خبير في السياسات العمومية محلل للشؤون الاقتصادية، إن الخطاب جاء “محمّلاً برسائل قوية، خاصة على المستوى الاقتصادي، حيث حرص الملك على التأكيد أن المغرب يواصل مسيرته بثبات نحو تحقيق تنمية اقتصادية متكاملة، مدعومة برؤية استراتيجية بعيدة المدى واختيارات تنموية كبرى، في ظل استقرار سياسي ومؤسساتي”.
ومن أبرز ما تضمنه الخطاب، في تقدير العيساوي ضمن تصريحه لهسبريس، “تشديد الملك على أهمية بناء اقتصاد تنافسي، متنوّع ومنفتح، ضمن إطار ماكرو-اقتصادي سليم ومستقر. كما أشار إلى أن المملكة تواجه تحديات هيكلية، على رأسها أزمة الجفاف، التي لم تعد ظرفية، بل أصبحت تفرض نفسها كمعطى دائم يستوجب حلولا استراتيجية”.
وذكر المحلل الاقتصادي أن “الخطاب منح علامة تنويه أيضا لما تحقق من نتائج اقتصادية مهمة”، بحفاظ المغرب على نسب نمو معتبَرة بانتظام، وحقق طفرة صناعية غير مسبوقة، خصوصا في قطاعات السيارات والطيران والصناعات الدوائية.
وقد تضاعفت الصادرات الصناعية منذ سنة 2014، مما يعكس دينامية القطاعات المندرجة ضمن ما يسمى المهن العالمية للمغرب”.
واعتبر الملك أن هذه القطاعات، إلى جانب الطاقات المتجددة والصناعات الغذائية والسياحة، تمثل روافع أساسية للاقتصاد الوطني من حيث الاستثمارات وإحداث فرص الشغل، “رغم الإقرار بأن مستوى التشغيل لا يزال دون الطموحات”، يورد العيساوي.
من جهة أخرى، شدد الخطاب، بحسب المحلل الاقتصادي ذاته، على أهمية تنويع الشراكات الدولية، مبرزا أن “المغرب بات شريكا موثوقا يتعامل مع سوق تضم أزيد من ثلاثة مليارات مستهلك، بفضل اتفاقيات التبادل الحر مع دول ومجموعات اقتصادية عدة”.
وفي السياق ذاته، حاز “تقدُّم وتسريع مشاريع البنية التحتية الكبرى، كمشروع توسيع خط القطار فائق السرعة بين القنيطرة ومراكش، ومشاريع الأمن المائي والسيادة الطاقية والغذائية، إشادة ملكية واضحة مؤكداً على طابعها الاستراتيجي”.
“غير أن الخطاب لم يخلُ من نبرة نقد ذاتي”، بحسب العيساوي، مستدركا بما عبّر عنه الملك من “عدم رضاه لكون ثمار التنمية لا تصل إلى جميع الفئات والمجالات الترابية، خصوصا في المناطق القروية، بسبب ضعف البنيات التحتية واستمرار مظاهر الفقر والهشاشة”.
وفي حديثه لهسبريس، استحضر المحلل الاقتصادي دلالة “ضرورة أخذ التحولات الديمغرافية والاجتماعية، التي كشفت عنها نتائج الإحصاء العام للسكان 2024، بعين الاعتبار في رسم السياسات العمومية”، مشيدا في الوقت ذاته بتراجع معدلات الفقر من 11.9% سنة 2014 إلى 6.8%، وبالارتقاء الإيجابي لموقع المغرب في مؤشر التنمية البشرية، حيث تم تصنيفه ضمن فئة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة”.
وخلص إلى أن “الرهان الأساس الذي حملته تمفصلات الخطاب يتمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، بما يضمن مغربا لا يسير بسرعتيْن، بل بتوازنٍ يشمل كل الفئات والجهات”.
تعميم التنمية
في سياق استقرائها لمضامين الخطاب، قالت سلمى صدقي، أستاذة الاقتصاد بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، إن “التوجه الاقتصادي للمملكة يروم تحقيق الصعود الاقتصادي عبر النهوض بالقطاع الصناعي باعتباره رافعة أساسية. فبعد سلسلة من البرامج التي همّت قطاعات السياحة والفلاحة لتعزيز مساهمتها في الناتج الداخلي الخام، أصبح المغرب، بفضل الرؤية الاستراتيجية والتوجيهات الملكية، أكثر جرأة في سعيه نحو تطور اقتصادي واجتماعي متوازن”.
وأكدت صدقي، ضمن تحليلها للشق الاقتصادي للخطاب، أن ذلك “تجلى في الطفرة التي عرفها قطاع السيارات، الذي أصبح يحتل المرتبة الثانية من حيث حجم الصادرات ومردوديتها، وفي الانتقال من البرامج الصناعية السابقة (2005-2006) إلى برامج جديدة للإقلاع الصناعي (…) ولهذا، كان من الطبيعي أن يفتتح جلالة الملك خطابه بالحصيلة الاقتصادية التي بات المغرب يعتزّ بها”.
وتوازي هذه الدينامية الاقتصادية، بحسب أستاذة الاقتصاد، “ثورة اجتماعية حقيقية، انطلقت بتعميم الحماية الاجتماعية منذ 2021، وتواصلت مطلع 2023 بإطلاق الدعم النقدي المباشر للفئات الفقيرة والهشة، في خطوة تروم تعزيز العدالة الاجتماعية والقدرة الشرائية للمواطنين”، لافتة إلى أن “سياسة برامج الدعم المباشر للأسر المستحقة نالت ثناء ملكيا لا لبس فيه”.
ويمثل “الدعم النقدي المباشر للأسر، الذي انطلق منذ سنتين، مكسبا اجتماعيا بارزا. وقد أشاد الخطاب الملكي بأهميتهضمن منظومة الحماية الاجتماعية، بالنظر إلى دوره في الحد من الفقر متعدد الأبعاد، وهو ما أكدته مختلف الدراسات الاقتصادية التي تبرز أثره الإيجابي على تحسين مستوى عيش الأسر المستفيدة وتعزيز التماسك الاجتماعي”، حسب تقديرها.
وباستشراف المرحلة المقبلة، استحضرت صدقي، في حديثها لهسبريس، “التنزيل الفعلي والمتقدم للجهوية، لا سيما في ظل ما يُرتقب من تطورات حاسمة بشأن قضية الصحراء المغربية؛ إذ يُنتظر أن يكون اعتماد مقترح الحكم الذاتي مدخلا أساسيا لتفعيل الجهوية المتقدمة على أرض الواقع”. وزادت بالشرح: “في هذا السياق، تبرز أهمية التوجه نحو تنمية اقتصادية جهوية تعتمد على خصوصيات كل جهة، بمؤهلاتها الطبيعية والاقتصادية، واحتياجات ساكنتها، وما تزخر به من طاقات شابة وكفاءات بشرية”.
وفقا للمصرحة، “يشكل هذا التوجه إشارة واضحة من جلالة الملك إلى أن المرحلة القادمة، التي ستتزامن مع الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2026، ستكون مرحلة حاسمة في مسار إرساء نموذج تنموي جهوي عادل وفعّال”.
وختمت سلمى صدقي بالتنبيه إلى أنه “رغم الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية المشرّفة، يبقى من الضروري مضاعفة الجهود لضمان أن تعمّ ثمار التنمية جميع فئات المجتمع كما تجدّد في مختلف خطابات الملك؛ فالمرحلة المقبلة تقتضي نموا اقتصاديا أكثر إدماجا، يراعي أوضاع الفئات الفقيرة والهشة، وخصوصيات المجال الترابي”.