أخبار عاجلة
البام.. والنيران العابرة للحدود -
سيدات نيجيريا إلى نصف نهائي "الكان" -
أمنستي تنتقد "خيانة الاتحاد الأوروبي" -

الشعبوية الحزبية وأزمة الثقة...

الشعبوية الحزبية وأزمة الثقة...
الشعبوية الحزبية وأزمة الثقة...

في ظل تحولات سياسية عميقة وتراكمات من الإخفاقات التنموية والديمقراطية، باتت العديد من الأحزاب السياسية عاجزة عن أداء دورها الأساسي كوسيط عقلاني بين الدولة والمجتمع. وقد ملأت الشعبوية هذا الفراغ، ليس فقط بوصفها خطابًا، بل كممارسة حزبية قائمة على التهييج العاطفي، وغياب المشروع، وتكريس الزعامة الفردية.

تُثار هنا إشكالية محورية: هل يمكن للحزب الذي فقد شرعيته المجتمعية أن يستعيد ثقة المواطن من خلال توظيف الشعبوية؟ وما شروط إعادة بناء علاقة عقلانية وتشاركية بين المجتمع والأحزاب، تنقذ الديمقراطية من التآكل البطيء؟

للإجابة عن هذه الإشكالية، نقاربها عبر ثلاثة محاور رئيسة:

المحور الأول: من الحزب المهرّج إلى الشعبوية المؤسّسة .. تفكك المشروع وزعزعة الوساطة

تُمثل الظاهرة الشعبوية أحد أبرز أعراض أزمة العمل الحزبي المعاصر، لا باعتبارها مجرد أسلوب تعبوي، بل لأنها تعكس انزياحًا خطيرًا عن الوظيفة المؤسساتية العقلانية للأحزاب السياسية. فحين تتحول الأحزاب من منصات حوارية تعاقدية إلى أدوات للتجييش العاطفي، فإنها تفقد دورها كوسيط عقلاني بين الدولة والمجتمع، وتدخل في مرحلة من الفراغ البنيوي والتصحر البرامجي.

في هذا السياق، تتبلور صورة ما يُمكن تسميته بـ”الحزب المهرّج”، وهو نمط حزبي ينزع نحو التسويق السياسي بدل التخطيط السياسي، ويُفضل إثارة الانتباه الإعلامي على حساب البناء الاستراتيجي. وتغدو الكاريزما الفردية فيه بديلًا عن الرؤية الجماعية، و”الزعيم” يتحول إلى محور لا يُناقَش، بل يُصفَّق له، حتى وإن خالف منطق العقل والدستور.

يؤدي هذا التمركز حول الشخص إلى اختزال المؤسسة الحزبية في الفرد، وإفراغها من مضمونها الديمقراطي الداخلي. فلا مناقشة حقيقية للقرارات، ولا تداول فعلي للأفكار، بل خضوع للولاء والهيبة المصطنعة. وهنا يتحوّل الخطاب السياسي من وسيلة للتنوير والنقد، إلى أداة للتهييج والمناورة، تقوم على شيطنة الخصوم، واحتقار المؤسسات، وتضخيم الوعود الانتخابية.

وما يبدو ظاهريًا معارضة جذرية، ليس في الواقع إلا ممانعة انتهازية، تبتغي جني الأرباح السياسية العاجلة، دون الالتزام برؤية إصلاحية حقيقية. وهذا الخطاب لا يُسهم في توسيع أفق المواطن أو ترسيخ ثقافة المشاركة، بل يُعزز نزعة التبخيس والتسفيه، وينتج نوعًا من الاغتراب السياسي العميق.

من زاوية سوسيولوجية، هذه الممارسات تفرز ما يمكن تسميته بـ”اللاأدرية السياسية”، حيث يشعر المواطن أن كل الفاعلين السياسيين متشابهون في الفشل والأنانية، وأن العملية السياسية برمتها لا تمثله، بل تستغله. وبالتالي تتآكل الثقة، ليس فقط في الأحزاب، بل في السياسة ذاتها كأداة للتغيير.

ويتحول الفرد إلى “مشاهد ساخر” بدل أن يكون “فاعلًا مشاركًا”، ويُفضل العزوف أو الاحتجاج خارج الأطر على الانخراط الحزبي، فينعكس ذلك سلبًا على شرعية النظام الديمقراطي برمّته. فحين تفشل الأحزاب في لعب دور الوسيط، يبحث المواطن عن بدائل خارج المؤسسات، مما قد يفتح المجال أمام التطرّف أو الانغلاق أو اللامبالاة القاتلة.

في النهاية، لا تمثّل الشعبوية خطرًا فقط على مستوى الخطاب، بل تهدد بنية النظام التمثيلي، لأنها تؤدي إلى تفريغ السياسة من بعدها التشاركي والمعرفي، وتحويلها إلى ساحة استعراض، لا فضاء اقتراح.

المحور الثاني: استعادة الثقة السياسية .. من التعاقد المفقود إلى المسؤولية الجماعية

في السياقات الديمقراطية السليمة، لا تقوم العلاقة بين الأحزاب والمواطنين على الولاء الأعمى، ولا على مجرد القناعة العاطفية، بل على عقد سياسي وأخلاقي يُفترض أن يجمع الطرفين حول مشروع جماعي تنموي، تُضبط فيه الحقوق بالواجبات، ويُقيّم فيه الأداء بالمحاسبة لا بالشعارات. غير أن ما يلاحَظ في المشهد الحزبي المغربي هو اهتراء هذا التعاقد، وتحوّله إلى علاقة ظرفية وموسمية، غالبًا ما تشتد فقط مع قرب الاستحقاقات الانتخابية.

إن استعادة هذه الثقة لا يمكن أن تتم عبر البلاغة الإنشائية أو التباكي على “أزمنة المجد الحزبي”، بل من خلال مراجعة جذرية وعميقة لطبيعة الأداء السياسي داخل الأحزاب، ومسؤوليتها المباشرة عن فقدان المصداقية المجتمعية. فالثقة لا تُمنح مجانًا، بل تُبنى مع الزمن عبر المراكمة، وتُكسب بالأفعال لا بالوعود.

في هذا الإطار، تبرز الحاجة إلى ثلاثة مرتكزات أساسية لإعادة ترميم هذه الثقة:

1- العودة إلى الميدان الاجتماعي: إذ لا يمكن لحزب أن يزعم تمثيل المواطنين دون أن يكون حاضنًا لهم في معاركهم اليومية. الانخراط في قضايا التعليم، والصحة، والسكن، والبطالة، ليس رفاهًا سياسيًا، بل هو المدخل الوحيد لإثبات الجدارة التمثيلية.

2- إصلاح البنية الداخلية للأحزاب: من خلال القطع مع منطق “الزعيم الأوحد”، وتشجيع القيادة التشاركية، وضمان شفافية اتخاذ القرار، وتعزيز ثقافة النقد الذاتي والاعتراف بالخطأ، لا حماية الفشل وتبريره.

3- صياغة مشروع سياسي تعاقدي: مشروع لا يكتفي بالشعارات الكبرى، بل يُترجم إلى سياسات عمومية واقعية، ويعتمد على مؤشرات واضحة لقياس الأداء، ويُلزم القيادات الحزبية بالمساءلة أمام من يمثلونهم.

على المستوى السوسيولوجي، فإن هذه الإجراءات لا تُعيد فقط الثقة الفردية، بل تُسهم في إعادة الاعتبار للانتماء السياسي، بعد أن أصبح الانخراط في الأحزاب يُنظر إليه بعين الريبة أو السخرية. فالثقة هنا ليست مجرد رأي إيجابي، بل هي شعور بالأمان السياسي والجدوى الاجتماعية من الفعل التشاركي.

أما من الزاوية النقدية، فالمطلوب هو نقد مزدوج: نقد للثقافة السياسية السائدة داخل الأحزاب، التي تميل إلى التبرير عوض الاعتراف، ونقد للمواطن كذلك، حين يُغذّي ثقافة التواكل أو يبحث عن تمثيل بلا مشاركة.

إذ لا يمكن استعادة الثقة من طرف واحد. إنها عملية مركّبة، تتطلب تفاعلًا مسؤولًا من الفاعل الحزبي، وانخراطًا واعيًا من المواطن، ومؤسسات تضمن النزاهة، وتحمي المسار من الانحراف.

المحور الثالث: من الديمقراطية الشكلية إلى الديمقراطية التشاركية .. نحو إعادة التوازن بين المجتمع والأحزاب

في كثير من السياقات السياسية التي تتبنّى الشكل الديمقراطي ظاهريًا، نواجه ظاهرة مقلقة يمكن تسميتها بـ”الديمقراطية الشكلية” أو “الديمقراطية الإجرائية”، وهي تلك التي تختزل الممارسة الديمقراطية في مجرد آليات إجرائية: صناديق اقتراع، وتداول صوري، ونسب مشاركة تُستعرض في التقارير الرسمية، بينما يغيب عنها الجوهر: التمثيل الحقيقي، والشرعية المجتمعية، والمشاركة الواعية.

في هذا النموذج، يتحوّل الحزب السياسي من كونه مؤسسة وسيطة تُعبّر عن إرادة المواطنين إلى جهاز مغلق، يشتغل بمنطق النخبة المعزولة، ويفصل بين الخطاب والممارسة، وبين البرنامج والواقع، وبين القاعدة والقيادة. ومن هنا تتولد فجوة سوسيولوجية بين المجتمع والأحزاب، يترتب عنها ضعف في الانتماء السياسي، وتزايد منسوب اللامبالاة أو حتى العداء للمؤسسات.

إن الديمقراطية التشاركية ليست نقيضًا للديمقراطية التمثيلية، بل هي امتداد طبيعي لها، تُعيد الاعتبار للدور اليومي للمواطن، لا كناخب فحسب، بل كمشارك في التشخيص، والمساءلة، وصناعة القرار العمومي. وهذا يتطلب:

1- إعادة هيكلة العلاقة بين الأحزاب والمجتمع المدني، من خلال تقوية أدوات التشاور العمومي، والانفتاح على الكفاءات والطاقات غير الحزبية، بدل اختزال العمل السياسي في دائرة مغلقة من “المقرّبين”.

2- الاستثمار في التنشئة السياسية، وخاصة في صفوف الشباب، حيث ينبغي أن تُصبح الأحزاب فضاءً للتكوين لا مجرد أدوات انتخابية. فبدون نخب جديدة، ومؤهّلة ومتمكنة، لا يمكن الحديث عن ديمقراطية ذات أفق مستقبلي.

3- إرساء آليات فعالة للمحاسبة الداخلية، تُمارَس من طرف المنخرطين لا فقط من قبل الدولة أو الإعلام، لضمان أن تكون القيادة الحزبية خادمة للمشروع، لا متحكمة فيه.

ومن منظور نقدي، لا بد من الإقرار بأن جزءًا من أزمة الديمقراطية الحالية يعود إلى “النفاق السياسي” الذي تمارسه بعض الأحزاب، حين تتحدث عن الشفافية والعدالة في برامجها، بينما تُدير شؤونها الداخلية بعقلية الزبونية والإقصاء. وهنا يفقد الحزب أهليته الأخلاقية، ويُساهم في تقويض قيم الديمقراطية من الداخل.

أما على المستوى السوسيولوجي، فإن الديمقراطية الحقيقية لا تُبنى فقط في قاعات البرلمان، بل تبدأ من الثقة داخل الحي، والشفافية في الجماعة، والنقاش في المدرسة، والمساءلة في الجمعيات. وعندما يغيب هذا الامتداد المجتمعي، تصبح الأحزاب كائنات سياسية غريبة عن محيطها، تتكلّم لغة لا يفهمها المواطن، ولا تعني له شيئًا.

إن إعادة التوازن بين المجتمع والأحزاب تقتضي ما يمكن تسميته بـ”المصالحة الديمقراطية”، وهي ليست مصالحة فوقية أو إجرائية، بل مصالحة قيمية ومعرفية، تُعيد للحزب دوره التأطيري والتنموي، وتُعيد للمواطن ثقته بأن التغيير السياسي لا يكون بالصراخ في الشارع فقط، بل أيضًا من داخل المؤسسات، حين تُفَعَّل وتُطهّر وتُفتح أمام الجميع.

ختاما ..

أمام التراجع المستمر في ثقة المواطن بالأحزاب، وتفكك الرابط بين المجتمع والعمل السياسي المنظم، يبدو أن السؤال لم يعد يتعلق فقط بكيفية تحسين الأداء الحزبي، بل بكيفية إنقاذ الديمقراطية من الفراغ التمثيلي والانجراف الشعبوي. فما نعيشه اليوم من تحوّل بعض الأحزاب إلى فضاءات استعراضية، يعكس أزمة أعمق من مجرد خلل ظرفي: إنها أزمة مشروع، وأزمة أخلاق سياسية، وأزمة وظيفة حزبية.

إن المطلوب اليوم ليس المزيد من الخطابات المهيّجة، ولا من الزعماء الذين يتقنون لغة المنصات وخطاب التهييج والتهريج، بل نحتاج إلى عودة جدية لـ”السياسة النبيلة”، تلك التي تُمارس في الميدان، وتتغذى من الواقع، وتنتج حلولًا لا شعارات. الأحزاب التي تعي هذا التحدي، وتُجدد آلياتها الداخلية، وتنفتح على طاقات مجتمعها، يمكن أن تستعيد دورها، وتعيد للمواطن إيمانه بأن الديمقراطية لا تزال ممكنة.

والمجتمع، بدوره، مطالب بالتخلي عن موقع المتفرج أو الضحية، والانخراط الواعي والناقد، لأن التغيير لا يأتي فقط من “النخبة”، بل من القاعدة حين تملك وعيًا، وتطالب بمحاسبة، وتقاوم الزيف. وبين من يراهن على الذاكرة القصيرة للمواطن، ومن يراهن على وعيه العميق، ستُحسم معركة الديمقراطية. فالسياسة التي تُبنى على الضجيج والتهريج لا تترك أثرًا .. أما تلك التي تُبنى على الثقة والصدق، فتصنع التاريخ، ولو ببطء.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أسعار الذهب اليوم 15 يوليو 2025 بعد الارتفاع الجديد
التالى بيع وسام أبو علي رسمياً وصدمة للجماهير بشأن الصفقة البديلة.. انتهت