في دهاليز العمل الحقوقي الدولي، سقط قناع الحياد والضمير العالمي عن عدد من المنظمات الحقوقية الدولية، بما في ذلك تلك التي طالما نصبت نفسها مدافعا شرسا وحَكما أخلاقيا وصيّا على أوضاع حقوق الإنسان في العالم، قبل أن تُصاب بعمى انتقائي في التعاطي مع القضايا الحقوقية، خاصة في المنطقة المغاربية.
ولا تتوانى العديد من هذه المنظمات في تحويل أي حادث في المغرب، على بساطته، إلى “قضية حقوقية كبرى” لتصوغ على إثره بيانات وتقارير بلغة مشحونة وجُمَل جاهزة، لا يتغير فيها سوى ترتيبها وموضعها في تشكيل سرديات مضلِّلة تخدم أجندات معادية لمصالح المغرب. بينما نجد هذه المنظمات ذاتها تمارس صمتا مريبا وغير مبرر يلامس حدود التواطؤ أمام ممارسات وانتهاكات النظام الجزائري، الذي لم يعد يُخفي سلطويته وتجبره، سواء في حق الجزائريين أنفسهم أم في حق المغاربة المحتجزين في تندوف.
وقد فضحت قضية اعتقال الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال في الجزائر وإدانته بخمس سنوات سجنا نافذا بتُهم واهية بسبب مواقفه المنتقدة لسياسات النظام الوجه الحقيقي لهذه المنظمات التي لم تُعطِ لقضيته الاهتمام الذي تستحقه، إذ اكتفى بعضها ببيانات عابرة ومقتضبة لا تعكس حجم الخطر الحقيقي الذي يواجهه الرجل رفقة عدد من المدافعين عن حرية التعبير في الجزائر.
في المقابل، لا تتردد تلك المنظمات، التي يُفترض فيها الحياد التام على اعتبار أن حقوق الإنسان التي تدافع عنها كونية لا تخضع للجغرافيا ولا لحسابات السياسة، في تسليط أضوائها الكاشفة على أية قضية تُثار في المغرب، خاصة في الأقاليم الجنوبية للمملكة، حيث تخلق أية قضية، ولو كانت مفتعلة من أطراف انفصالية اعتادت التلاعب بالخطاب الحقوقي لخدمة أجندات معروفة، حماسا كبيرا لديها، وكأنها كانت تنتظر هذه الفرصة بفارغ الصبر لتصريف مواقفها الجاهزة تجاه المغرب.
سكوت وابتزاز
عمري تيجاني، ناشط حقوقي جزائري وعضو الجمعية الجزائرية لترقية المواطنة وحقوق الإنسان، قال إن “العديد من المنظمات الحقوقية الدولية تغض الطرف ولا تقدم تقارير صحيحة عن وضعية حقوق الإنسان داخل الجزائر، وعن الانتهاكات الحقوقية الجسيمة التي طالت مئات الجزائريين من المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين والنشطاء المدنيين، الذين صعّدت السلطات الجزائرية من ممارساتها القمعية تجاههم، خاصة في السنوات الأخيرة”.
وأوضح تيجاني، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “المنظمات الحقوقية المستقلة في الداخل الجزائري تواجه تضييقا ممنهجا من طرف السلطات. أما في الخارج، فإن أغلب المنظمات التي تهتم أو تُعنى بالشأن الحقوقي في الجزائر، مخترَقة من أجهزة المخابرات الجزائرية التي تموّلها وتوجّه تقاريرها. والدليل هو أن لا أحد تقريبا من هذه المنظمات كتب عن الانتهاكات التي تعرضتُ لها من طرف ضباط الجيش الجزائري بسبب كتاباتي عن الفساد المستشري في البلاد”.
وذكر المتحدث ذاته أن “المخابرات الجزائرية تشتري ذمم هذه المنظمات الدولية، وإذا ما رفضوا أو تعنّتوا، فإنها تلجأ إلى أساليب ابتزازية في حق أعضاء هذه المنظمات والشخصيات الحقوقية التي ترفض الانصياع لتوجهاتها أو التعاون مع أجندتها، حيث تعمد إلى توريط بعض أعضائها في فضائح أخلاقية وجنسية مفبركة، وابتزازهم بعد ذلك إذا ما خرجوا عن الخطوط الحمراء؛ وهو ما يفسر هذا السكوت غير المبرر لهذه المنظمات في تقاريرها عن وضعية حقوق الإنسان في الداخل الجزائري”.
وخلص الناشط الحقوقي ذاته إلى أن “النظام الجزائري هو من أخطر الأنظمة على مستوى العالم، إذ لا يحكمه عبد المجيد تبون أو حتى السعيد شنقريحة كما قد يعتقد البعض؛ بل هو محكوم من طرف أشخاص لا يظهرون في الصورة ويتحكمون في دواليب القرار، ولديهم شبكات واسعة من العلاقات وتأثير كبير على العديد من الجهات التي تظهر أنها معارضة للنظام، والمنظمات الحقوقية في الداخل والخارج التي تخدم أهدافهم وتوجد تحت طلبهم في أي وقت وحين”.
صور واصطفاف
قال عبد الوهاب الكاين، رئيس المنظمة الإفريقية لمراقبة حقوق الإنسان “أفريكا ووتش”، إنّه “على الرغم من تحقيق المملكة المغربية لمكاسب كبيرة في علاقة بإتمام مسار الانتقال الديمقراطي الذي بدأ موازاة مع اعتلاء الملك محمد السادس العرش، وتسوية ملف الاضطهاد السياسي على نطاق واسع، وجعل البلد ورشا حقوقيا بامتياز، في لحظة مفصلية أسّست لمصالحة وطنية بمقاييس استثنائية؛ فإن جهات ومنظمات غير حكومية دولية ظلّت مسكونة بالترويج لصورة نمطية عن المغرب الراهن، بالرغم من التقدّمات المحرزة في مجال تعزيز وحماية حقوق الإنسان منذ عقدين من الزمن”.
وأضاف الكاين، في تصريح لهسبريس، أن “هذا التناول المتحيز لقضايا المغرب يظهر انطلاقا من تضخيم الأحداث والانتصار لآراء الخصوم، سواء كانوا أشخاصا أم جماعات أم دولا، في الكثير من الوقائع التي عرفتها منطقة الصحراء المغربية، والتي اندلعت غالبيتها بفعل تأجيج وتمويل خارجي من قبل الجزائر وآلتها الدعائية والأمنية وتنظيمها المرافق بتندوف، جبهة البوليساريو”.
وزاد الفاعل الحقوقي ذاته شارحا: “نصطدم دائما بتحيّز تلك الهيئات في إطار فحص سجل حقوق الإنسان بالجزائر، على سبيل المثال، حيث إنه على الرغم من مثابرتنا وعملنا الدؤوب في رصد وتوثيق ما يقع هناك من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ غير أن عملنا يبقى رهين تقييم سياسي محض، عوض الاستعانة بما نقدمه من معلومات ثمينة لدرء الخطر والضرر عن الضحايا أو ذويهم بالجزائر وبمخيمات تندوف على وجه الخصوص. بل في بعض الأحيان، تفاجئنا ردود مسؤولي تلك المنظمات الدولية بالاصطفاف العلني إلى جانب الجزائر والبوليساريو، أو بالصمت المطبق أمام جرائم بأركان محددة وبمسؤولية ثابتة لدولة الجزائر”.
وذكر رئيس المنظمة الإفريقية لمراقبة حقوق الإنسان “أفريكا ووتش”، أن “المرء قد يعتقد أن تلك الجهات الحقوقية الدولية تغضّ الطرف فقط عمّا يقع في الجزائر وفي مخيمات تندوف؛ لكنه اعتقاد خاطئ تماما؛ لأن في الجزائر جهات سيادية ليست لها مهمة سوى مراقبة وملاحقة وكتابة تقارير بشأن ما يُكتب عن حقوق الإنسان بالجزائر والمخيمات، ولها من الصلاحيات الواسعة والإمكانيات المالية واللوجستيكية؛ ما يجعلها أقوى من الدولة الجزائرية نفسها، حيث يحوز عناصرها قوة اتخاذ القرار والنفاذ إلى الدوائر التقريرية في المنظمات وفي فضاءات حقوق الإنسان بشكل خارق للعادة”.
تهاون ومسؤولية
سجّل عبد الوهاب الكاين أن “الجزائر لا تتعاون عموما مع آليات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، سواء منها التعاقدية أم غير التعاقدية، ولم تحافظ قطّ على التفاعل مع نظام تقديم التقارير الدورية لهيئات المعاهدات، ويُنتظر أن تقدّم أكثر من خمسة تقارير لِخمس لجان أممية، مع بطء شديد في الوفاء بالالتزامات الواردة في الملاحظات الختامية المقدّمة من خبراء تلك اللجان. ولا يزال العالم ينتظر تصديقها على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، ليتسنى لنا السؤال عن ذوينا وأقاربنا المختفين قسريا بالمخيمات منذ خمسة عقود. وقد لا تتورّع الدولة الحاضنة للمخيمات في رفض الاستجابة لطلب إجراء زيارة لأحد الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان؛ كالفريق الأممي العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي، والفريق الأممي العامل المعني بالاعتقال التعسفي”.
وشدّد المتحدث عينه على أن “هذا التساهل مع الجزائر هو ما أفرز اعتقال الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال تعسفيا، وتوجيه اتهامات ثقيلة له لم تُوجَّه حتى لأعتى الجنرالات الجلادين المطلوبين للقضاء الدولي، والذين ظلّت الجزائر تحميهم بالحصانة الدبلوماسية والطائرات الخاصة والمال الوفير حتى قضوا نحبهم، لأن من يحمي حقوق الإنسان ويستجيب لتطلعات شعبه ورغباته لن يخشى تصريحات شيخ طاعن في السن عن أحداث وقعت منذ ستة عقود، قد لا يرتب قولها حقوقا أو ينشئ التزامات في المستقبل المنظور”.
وختم عبد الوهاب الكاين بالقول إن “المنظمات الدولية لا ترى في فحص سجل حقوق الإنسان بالجزائر، على أساس معايير دولية مضبوطة ومحكومة بمبادئ وقواعد القانون الدولي، أولوية، وأن من شأن التركيز عليها ضياع مصادر تمويل ثمينة. وبناء عليه، لا يكفي أن نجلس متفرّجين على ما ستقوم به الدولة ومؤسساتها فقط، فالقسط الأكبر من المسؤولية يقع على عاتقنا نحن أعضاء المجتمع المدني، بخصوص تكثيف التواجد الفعلي في تلك المناطق التي غالبا ما تتعرض لاستهدافات موجهة قصد الترويج للأكاذيب، وتقوية عملنا في مجال الرصد والتوثيق، وإعداد التقارير بحرفية عالية للنفاذ إلى قناعات المتلقي الأجنبي”.