أخبار عاجلة

الشركات العائلية في السعودية: من إرث القوة إلى استدامة الثروة

الشركات العائلية في السعودية: من إرث القوة إلى استدامة الثروة
الشركات العائلية في السعودية: من إرث القوة إلى استدامة الثروة

في قلب الاقتصاد السعودي، تقف الشركات العائلية كأحد أعمدة النشاط الخاص، ليست فقط بما تمثله من حجم سوقي وفرص عمل، بل بما تحمله من امتداد اجتماعي وهوية وطنية متجذّرة في نسيج المجتمع. لكنها اليوم تواجه لحظة حاسمة: لم يعد الإرث وحده كافيًا، ولم يعد الاسم العائلي ضمانة للبقاء. نحن أمام مشهد اقتصادي متحوّل، تتسارع فيه التغيرات وتشتد فيه المنافسة وتتقلص فيه المساحات التقليدية، ما يفرض على هذه الشركات أن تُعيد تعريف نفسها داخل بيئة أكثر شفافية، وأكثر رقمية، وأكثر استعدادًا للتغيير. وما كان يومًا ميزة تنافسية، بات مهددًا إن لم يتحوّل إلى نموذج احترافي قابل للاستمرار.

فرصة التحوّل لم تعد اختيارًا، بل ضرورة فرضتها رؤية السعودية 2030، التي أعادت رسم دور القطاع الخاص في قيادة التنمية، وفتحت الأبواب أمام تمكين المؤسسات العائلية لتصبح مؤسسات وطنية ذات بُعد عالمي. ووفقًا لبيانات KPMG 2025، فإن الشركات العائلية تشكّل أكثر من 95% من المنشآت الخاصة في المملكة، وتُساهم بنحو 66% من الناتج المحلي للقطاع الخاص، كما توفّر وظائف لحوالي 7.2 مليون شخص، أي ما يعادل 52% من القوى العاملة الوطنية — مما يجعلها حجر الأساس في الاقتصاد السعودي.

ورغم هذا الثقل الاقتصادي، إلا أن الاستدامة المؤسسية لا تزال هشّة. فحسب بيانات EthicsPress، لا تنجح سوى 30% من الشركات في الانتقال إلى الجيل الثاني، بينما لا تتجاوز نسبة من تستمر حتى الجيل الثالث 12%، وتنخفض إلى 5% بعد الجيل الرابع. ويُعزى هذا الانحدار إلى عوامل عديدة، أبرزها غياب خطط الخلافة؛ إذ أظهرت بيانات Argaam أن نحو 59% من الشركات العائلية في المملكة لا تمتلك أي خطة واضحة للخلافة.

ورغم الجهود النظامية، لا تزال 78% من هذه الشركات تُدار كملكية فردية رسمية، دون هيكل مؤسسي يُفصل بين الأدوار والقرارات. هذه الأرقام لا تُظهر فقط ضعف الحوكمة، بل تعكس غياب “العقود النفسية” (الاتفاقات الضمنية غير المكتوبة حول الحقوق والمسؤوليات بين أفراد العائلة) والعقود التنظيمية، وهو ما يُضعف الثقة، ويُعقّد التوريث.

ومن أبرز الإشكاليات التي لا تزال تُدار في الظل: مسألة السيطرة الفعلية على الثروة. فبينما توزَّع الملكيات بين الورثة، تبقى السلطة الحقيقية في يد طرف واحد غالبًا، هو من يقرّر ويوجّه ويُنفّذ، دون رقابة أو مساءلة من بقية الشركاء. هذه المعادلة، كما تشير التجارب، تؤدي إلى ما يُعرف بـ”الورثة الصامتين”؛ أولئك الذين لا يُشركون في القرار، بل يُطلب منهم الصمت مقابل أرباح رمزية تُصرف كأنها بدل ولاء، مما يرسّخ ثقافة الإقصاء العائلي ويُعمّق فجوة الثقة عبر الأجيال.

تحت هذا النموذج، تغيب الشفافية، وتُصبح الأصول مجرد رموز للمكانة، لا أدوات إنتاج أو تنمية. حسب بيانات Academic Conferences، فإن ثروة الشركات العائلية السعودية تصل إلى 800 مليار ريال، تمثّل نحو 32% من الناتج المحلي غير النفطي، إلا أن جزءًا كبيرًا منها يظل مجمّدًا في عقارات غير مستثمرة، تُحتفظ بها للحفاظ على السمعة العائلية، لا لتعظيم الإنتاجية.

على الجانب الآخر، هناك نماذج ناجحة محليًا وعالميًا تثبت أهمية الحوكمة والتخطيط. مثلًا، مجموعة المهيدب السعودية التي تأسست عام 1943 ونجحت في الانتقال بين الأجيال عبر تطوير الحوكمة، وعائلة والتون الأمريكية التي تدير Walmart منذ الستينيات، وكذلك شركة Mars التي يديرها الجيل الرابع مع سياسات واضحة للخلافة.

وفي خضم هذا الواقع، برزت السيدات بشكل تدريجي كلاعبات فاعلات في الشركات العائلية. فقد بدأت نسبة من العائلات تُسند أدوارًا تنفيذية للمرأة في التسويق، إدارة العلاقات، وحتى القيادة التنفيذية، خصوصًا مع الدعم المؤسسي الذي وفّرته الرؤية الوطنية. وتشير بيانات Grant Thornton 2025 إلى أن تمثيل النساء في الإدارة العليا للشركات السعودية العائلية لا يزال محدودًا، رغم ارتفاعه التدريجي بدعم من التعليم والتحوّلات الاجتماعية. وأظهرت بيانات Ericsson 2024 أن مشاركة النساء في سوق العمل السعودي ارتفعت إلى 34.5% عام 2023 وتجاوزت 35% في 2024، إلا أن تمثيل المرأة في الإدارة العليا للشركات العائلية لا يزال أقل مقارنة بالشركات غير العائلية في المملكة، وأقل من النسب العالمية في شركات مثل Mars وIKEA التي شهدت تحولات هيكلية دعمت تمكين المرأة.

لكن مشاركة المرأة، كما التخطيط للخلافة، تحتاج إلى بيئة مؤسسية مستقلة، تفصل بين المال العائلي والمال التشغيلي، وتفكك فكرة “التحكم الوراثي” لصالح “الإدارة بالاستحقاق”. التجارب العالمية تؤكد أن التأسيس المبكر لـ”المكتب العائلي” (Family Office) – وهو كيان مستقل لإدارة ثروة العائلة واستثماراتها بعيدًا عن الإدارة التشغيلية – وتطبيق سياسات توزيع واستثمار شفافة، هو ما يضمن بقاء الشركة… وبقاء العائلة معًا.

وفي خضم التحوّل، لا يمكن تجاهل القوة الصامتة التي تقدمها التقنية. فالتقنيات الحديثة – مثل أنظمة إدارة الثروات الرقمية، والتوثيق الإلكتروني، ومنصات الذكاء الاصطناعي في التحليل المالي – تمنح العائلة لغة موحدة للحوار، وتجعل القرارات قابلة للتتبع والمساءلة. وقد بدأت بعض المكاتب العائلية في السعودية تعتمد على نظم تخطيط موارد المؤسسات (ERP) وحوكمة الأداء باستخدام أدوات تحليل البيانات الفورية، وهو ما ساهم في تقليل النزاعات وتوثيق المعاملات داخليًا. على سبيل المثال، يمكن استخدام برامج متخصصة لتوزيع الأرباح بين الورثة بشكل شفاف، أو اعتماد منصات إلكترونية لحفظ العقود والقرارات، ما يسهل الرجوع إليها ويقلل النزاعات. ووفقًا لاستطلاع PwC 2025، فإن 71% من التنفيذيين في السعودية يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي سيُسهم في تعزيز الربحية خلال العامين المقبلين، بينما توقّع 77% منهم نموًا ملموسًا في شركاتهم.

ومن بين الأدوات الأكثر تحولًا، يبرز الطرح العام كخيار لا يغيّر فقط مصادر التمويل، بل يغيّر ثقافة القرار نفسها. فالطرح العام (إدراج الشركة في سوق الأسهم) يفصل بين الملكية والإدارة، ويحوّل التوترات العائلية إلى أسهم قابلة للتداول، ويجبر المؤسسات على الشفافية. وهذا ما بدأت تدعمه هيئة السوق المالية السعودية من خلال برامج التهيئة والإدراج والتأهيل التنظيمي.

كل هذا لا يمكن أن ينجح دون منظومة دعم وطنية. من وزارة التجارة بتطويرها لوائح الحوكمة العائلية، إلى هيئة منشآت بدورها في التدريب والتمويل، والغرف التجارية كمظلة لحوار الشركاء والخبرات. ومن أبرز الحوافز التي يمكن أن تُحدث فارقًا: الإعفاءات الضريبية المؤقتة، وتيسير تسجيل مواثيق العائلة، وتمويل تأسيس صناديق عائلية بإطار مؤسسي.

ولضمان استدامة الشركات العائلية السعودية، هناك توصيات عملية مهمة: منها تأسيس مجلس عائلة مستقل يضع السياسات العامة ويحسم النزاعات، توثيق خطة خلافة مكتوبة وواضحة وتحديثها دوريًا، أيضاً فصل الملكية عن الإدارة، وتعيين مديرين محترفين عند الحاجة، من التوصيات المهمة أيضاً تعزيز الشفافية باستخدام الأنظمة الرقمية وتقديم تقارير دورية، أيضاً تشجيع مشاركة المرأة في المناصب التنفيذية والتدريب المستمر، وتأسيس مكتب عائلي لإدارة الثروة بعيدًا عن العمليات اليومية، ودراسة الطرح العام كخيار لرفع الحوكمة وتوسيع مصادر التمويل.

إن التحوّل من العاطفة إلى الحوكمة، ومن الإرث إلى النموذج، ومن الفرد إلى المؤسسة… ليس تهديدًا لهوية الشركات العائلية، بل هو امتداد لها. فالعائلة التي تدير أعمالها بعقلية السوق، وتحترم أدوارها وتخطط لأجيالها، لا تحمي فقط ثروتها… بل تصنع مجدها من جديد.

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق موعد مباراة الهلال وفلومينينسي في ربع نهائي كأس العالم للأندية
التالى الاتحاد يطلب ضم موهبة الأهلي ضمن صفقة مروان عطية