حين تُسأل: ما الذي تتمنى أن تتركه لابنك؟ ستقول: بيت، تعليم، رصيد بنكي، أو ربما تركة تُعينه على الحياة. لكن قليلون من يفكرون في ترك “سلوك مالي” سليم. ذلك السلوك لا يُورّث بالمال، بل يُبنى بالممارسة، ويُنقش بالتكرار، ويُختبر في أول مصروف جيب، وأول مبلغ “كاش” يدخل يد الطفل.
المال ليس أداة شراء فحسب، بل هو مرآة لقيمة الأشياء في عقل الطفل. ومن لم يتعلم الادخار صغيرًا، قد يتقن الندم كبيرًا.
في السنوات الأخيرة، سمحت بعض البنوك السعودية بفتح حسابات بنكية للأطفال دون سن 18، بشرط أن تكون مرتبطة بحساب ولي الأمر. خطوة متقدمة، لكن السؤال الأهم: هل نُعلّم أبناءنا كيف يتعاملون مع المال؟ أم نمنحهم أدوات صرف قبل أن نمنحهم وعي الادخار؟
طفل في العاشرة يمتلك بطاقة صراف، يدخل متجرًا إلكترونيًا أو تطبيق لعبة، ويضغط “اشترِ الآن” دون إدراك لما خلف هذا الزر من ميزانية ومسؤوليات. ومن دون توجيه، يتحول المال إلى عبث لا إلى وعي. وقد ينزلق الطفل نحو مواقع مشبوهة وروابط احتيالية، لا تسرق المال فحسب، بل تبث أفكارًا تُخالف الدين وتُسيء للوطن.
المشكلة ليست في المال، بل في غياب التوجيه؛ فالكثير من الآباء يمنحون أبناءهم حرية الإنفاق، ويُغدقون عليهم بما يفوق حاجتهم، مما يرسّخ في أذهانهم نمطًا من الرفاهية الزائدة التي قد تُربك اختياراتهم مستقبلًا، وتُضعف قدرتهم على التمييز بين الضروري والتكميلي، دون أن يمنحوهم وقتًا لفهم معنى الادخار، أو التفرقة بين الحاجة والرغبة، أو بين الشراء العاطفي والشراء الواعي.
التقنية وفّرتها البنوك، والرقابة وضعتها الأنظمة، والدور الباقي على الأهل. يمكن ربط الحساب بحد شهري للإنفاق، وفتح حوارات مستمرة مع الأبناء حول إدارة المال، وتعليمهم وضع أهداف ادخارية بسيطة. ويبدأ الطفل في إدراك أن الادخار ليس حرمانًا، بل وعي مبكر يحتاجه كما يحتاج القراءة والكتابة.
رغم أن البنوك تتيح ربط الحساب بولي الأمر، إلا أن هذا الربط لا يتم دائمًا تلقائيًا أو كشرط إلزامي. وهو ما يفتح الباب أمام ثغرات تنظيمية قد تُعرّض الأبناء لقرارات مالية غير محسوبة أو محاولات استغلال رقمي.
حدثني صديقي أن ابنه اعتاد أن يطلب مبالغ صغيرة كل بضعة أيام، يرسلها دون تردد، ظنًا أنها حاجات عابرة لا تُذكر. لكن مع نهاية الشهر، جاءت المفاجأة: إجمالي التحويلات تجاوز أربعة آلاف ريال. لم يكن الطفل مسرفًا، بل فقط يمتلك بطاقة صراف دون وعي، ويتعامل مع المال كما لو كان بلا حدود. لم يدرك أن خلف كل ريال يحول، ساعات من كدّ والده، وجهد بُذل ليؤمّن له حياة كريمة. لم يتعلّم بعد أن المال ليس مجرد رقم، بل قيمة تستحق أن تُصان وتُقدَّر.
في النهاية، السلوك المالي الفردي ليس شأنًا خاصًا فقط، بل هو جزء من نسيج مجتمعي. طفل لا يتعلم الادخار اليوم، قد يكون غدًا شابًا يعاني من الديون، أو أبًا يُكرر ذات الأخطاء مع أطفاله. ولهذا، فإن بناء وعي مالي مبكر هو استثمار طويل الأجل في استقرار الأسرة وازدهار المجتمع.
رؤية السعودية 2030 لا تتحدث فقط عن نسب التملك والادخار، بل تُراهن على بناء جيل واعٍ ماليًا، يعرف كيف يخطط، ويُوازن، ويعيش ضمن إمكاناته. فتمكين الأفراد يبدأ من وعي الطفل بقيمة الريال، ويمتد إلى شاب مسؤول يسهم في اقتصاد وطني متماسك.
ختام ما أقوله.. أيها الآباء، لا تجعلوا أول درس يتعلمه ابنكم عن المال هو الشراء. علّموه أن المال وسيلة لا غاية، وأن الادخار ليس بخلًا، بل احترام للجهد الذي جاء منه هذا المال.
ازرعوا في أبنائكم وعيًا يحصنهم من الانجراف خلف الإغراءات، ويربي فيهم المسؤولية منذ الصغر. فأن تُهدي ابنك وعيًا ماليًا، أنفع له من مالٍ يُنفقه بلا وعي، وأبقى من ثروة لا يعرف كيف يحميها.
ولعل الوقت قد حان لتكون التوعية المالية جزءًا من مناهجنا الدراسية، ومبادرة وطنية تبدأ من المدارس، لتخرج جيلًا لا يعرف فقط كيف يصرف، بل متى ولماذا يصرف.