أحدث نظام الشركات الجديد، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/132) لعام 1443هـ، ولائحته التنفيذية، إلى جانب لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية، تحولًا نوعيًا في بنية الحوكمة المؤسسية في المملكة. فقد عززت هذه المنظومة من حقوق المساهمين – ولا سيما صغارهم – ومكّنتهم من أداء دور فاعل في الرقابة والتوجيه. كما وفّرت لهم أدوات نظامية جوهرية، مثل التصويت التراكمي، وحق إدراج بنود على جدول الأعمال، والدعوة لانعقاد الجمعية العامة، والاطلاع على الوثائق والمعلومات، والطعن على القرارات الضارة.
ومن أبرز الأحكام التي شددت عليها هذه الأنظمة ما يتعلق بالعقود والأعمال التي يكون لأحد أعضاء مجلس الإدارة أو كبار المساهمين فيها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة. إذ أوجبت النصوص الإفصاح المسبق عن هذه المصالح، والحصول على موافقة الجمعية العامة أو مجلس الإدارة بحسب الحالة، مع حظر العضو المعني من التصويت، واشتراط إرفاق تقارير مستقلة لتقييم عدالة الشروط. وتهدف هذه الأحكام إلى منع تعارض المصالح، وإغلاق الباب أمام استغلال النفوذ، وضمان تحقيق العدالة لجميع المساهمين.
إلا أن الواقع العملي أظهر استمرار بعض كبار المساهمين وأعضاء المجالس في تمرير عقود تخدم مصالحهم الخاصة، لا سيما في مجالات الإيجار والخدمات، مستغلين ما يتاح لهم من نفوذ داخل الشركات. وقد شهدت السوق السعودية نماذج متعددة لهذه الممارسات. فعلى سبيل المثال، أفصحت شركة “عِلم” في عام 2022 عن عقد إيجار مع شركة يمتلكها أحد أعضاء المجلس، عُرض على الجمعية مع استبعاد العضو من التصويت، إلا أن المساهمين أبدوا تحفظات على عدالة التقييم. كما عرضت شركة “سبيماكو” عقدًا لاستئجار مبنى من طرف ذي علاقة بعضو مجلس إدارة، وطالب المساهمون حينها بإيضاحات إضافية حول شروط التعاقد.
وفي حالة مشابهة، أبرمت شركة “الإنماء طوكيو مارين” عقد خدمات تقنية مع شركة يملكها أحد أعضاء مجلس إدارتها، لكن الإفصاح جاء متأخرًا، مما أثار انتقادات حول غياب التقييم المستقل. أما شركة “أسمنت نجران” فقد أعلنت عن استئجار مواقع من أطراف ذات علاقة، وواجهت مطالبات بإجراء مراجعة محايدة. وفي شركة “ريدان الغذائية”، طُرحت للجمعية عقود إيجار لمواقع تجارية تعود ملكيتها لأعضاء المجلس أو أقاربهم، وسط تساؤلات حول عدالة التسعير وشفافية الإفصاح. كما أفصحت شركة “المستشفى السعودي الألماني” عن استئجار مواقع تشغيلية من أطراف ذات علاقة، ما دفع بعض المساهمين للمطالبة بضمانات تنافسية وتوضيحات إضافية.
ومن أبرز الأمثلة كذلك ما أفصحت عنه شركة “العثيم للتجزئة”، التي أعلنت مرارًا عن عقود إيجار لفروع تجارية في مواقع مملوكة لأطراف ذات علاقة، من بينهم أعضاء مجلس إدارة أو شركات تابعة لهم. ورغم التزام الشركة بالإفصاح، إلا أن مراقبين ومساهمين دعوا إلى توضيح منهجية التقييم وضرورة مراجعة مستقلة، نظرًا لطبيعة تلك العقود طويلة الأجل وتأثيرها المالي المباشر على التكاليف التشغيلية. وهو ما يعكس أهمية تجاوز الإفصاح الشكلي نحو آليات تحقق فعلية تضمن العدالة والنزاهة.
وقد تجلى هذا التحدي بشكل أوضح في اجتماع الجمعية العامة لشركة “السعودي الألماني الصحية”، حين عبّر رجل الأعمال والمساهم البارز خالد الشثري – المعروف بمواقفه الداعمة لحوكمة الشركات – عن استيائه مما وصفه بـ”الهيمنة الفردية” على قرارات الشركة. وقد دعا إلى رفض جميع البنود المرتبطة بعقود ذات علاقة، وتقديم شكوى إلى هيئة السوق المالية، ومخاطبة هيئة الرقابة ومكافحة الفساد للتحقيق في ما اعتبره تضاربًا صارخًا في المصالح. وتُظهر هذه الواقعة أن قوة النصوص وحدها لا تكفي، ما لم يصاحبها وعي حقيقي واستعداد فعلي من المساهمين لتفعيل أدواتهم النظامية، ومساءلة الإدارة، وحماية قواعد العدالة المؤسسية النماذج التي اوردناها هنا هي فقط امثلة على واقع حدثت في السوق او اثيرت حوله نقاشات..
ورغم أن من غير الممكن – وهنا الحديث بشكل عام وليس على الامثلة الواردة اعلاه – الجزم بثبوت النية أو النتائج في كل حالة، إلا أن هذا النمط المتكرر يعكس سلوكًا ممنهجًا لاستغلال النفوذ داخل مجالس الإدارة لإبرام تعاقدات ظاهرها قانوني، وجوهرها انحراف عن معايير الحوكمة. وهنا تتجلى ضرورة تمكين صغار المساهمين، وتأهيلهم لتحليل العقود، وطلب التقييمات المستقلة، والمشاركة الجادة في الجمعيات العامة. فهذه الممارسات – وإن غُلّفت بإفصاحات – تمس جوهر الحوكمة، وتُضعف العدالة، وتنعكس سلبًا على ثقة السوق واستقرار البيئة الاستثمارية.
وفي هذا السياق، يُعدّ تفعيل أدوات المساهم النظامية أحد أهم أركان الحوكمة المؤسسية. وقد أشار الأستاذ تركي عابد الجحدلي في مقاله المنشور بصحيفة “مال” بتاريخ 9 يوليو 2025، بعنوان “اعرف حقك .. كيف يشارك المساهم مشاركة فعالة في الجمعيات العامة ومساءلة مجلس الإدارة؟”، إلى أن المشاركة الفعالة تبدأ من الإعداد المسبق، وقراءة التقارير السنوية، وتحليل جدول الأعمال، وتوجيه الأسئلة المدروسة لمجلس الإدارة ومراجع الحسابات، مع ممارسة الحق في التصويت، والترشيح، وتوكيل الغير، والمطالبة بإدراج بنود إضافية. وإذا فُعلت هذه الحقوق بوعي ومسؤولية، فإنها تشكّل درعًا رقابيًا يعزز التوازن داخل الجمعية العامة.
وفي الاتجاه ذاته، نشرت صحيفة “مال” في 7 يوليو 2025 تقريرًا تثقيفيًا شدّد على أهمية تهيئة المساهم قبل انعقاد الجمعية، وتمكينه من ممارسة أدوات الرقابة بكفاءة، بما في ذلك الطعن، والاطلاع على المحاضر، والمشاركة في صنع القرار. إن هذه الأدوات، متى ما فعّلها المساهمون، فإنها تحوّل الجمعية العامة من إجراء شكلي إلى منصة رقابة فاعلة، وتحدّ من تمرير العقود ذات العلاقة تحت غطاء قانوني سطحي.
ومن هنا، فإن تفعيل الأثر الحمائي لنظام الشركات يتطلب دورًا أكثر حزمًا من الجهات التنظيمية، وفي مقدمتها هيئة السوق المالية، وذلك من خلال تطوير ممكنات تشريعية وأدوات رقابية استباقية تُمكّن من مراجعة العقود ذات العلاقة قبل إبرامها، وإلزام الشركات بالإفصاح عن تفاصيل دقيقة تشمل: أسماء الملاك الحقيقيين، ودرجة القرابة، وطبيعة العلاقة، ومنهجية التقييم من جهة مستقلة.
وفي هذا السياق، أقترح تعديل لائحة حوكمة الشركات بما يمنع إبرام عقود تتجاوز حدًا ماليًا معينًا مع أطراف ذات علاقة، إلا بعد استيفاء شرطين: إجراء منافسة شفافة أو مناقصة محدودة، وتقديم تقييم مستقل يُرفق مع مستندات الجمعية. وهذا التوجه لا يستند فقط إلى الحاجة المحلية، بل يتماشى مع ممارسات دولية رائدة؛ ففي المملكة المتحدة، تُلزم قواعد الإدراج الشركات المدرجة بالحصول على موافقة المساهمين المستقلين عند تجاوز المعاملة حدودًا مالية معينة، مع تقديم تقرير من مستشار مالي مستقل. أما في سنغافورة، فيُشترط عرض المعاملة على الجمعية إذا تجاوزت نسبة معينة من أصول الشركة، مع تقديم “تقرير معقولية” من طرف ثالث. وتطبيق مثل هذه الاشتراطات في المملكة من شأنه أن يعزز عدالة التعاقدات، ويحد من تغوّل النفوذ، ويُقارب بيئتنا النظامية من الممارسات العالمية.
ختامًا، إن الحوكمة ليست مجرد نصوص تُكتب أو تقارير تُعد، بل هي ثقافة مؤسسية وسلوك رقابي يُمارس. وهي تستمد فعاليتها من وعي المساهمين، واستقلالية الإدارة، ويقظة الجهات الرقابية. والمساهم الصغير لم يعد اليوم مجرد متلقٍ سلبي، بل يملك أدوات نظامية فاعلة، من التصويت والطعن إلى المطالبة بالمعلومة والمساءلة. إلا أن هذه الأدوات تظل بلا أثر إن لم تُفعّل. فالنصوص لا تحمي بحد ذاتها، ما لم ينهض بها وعي حيّ، ومشاركة جادة، ورقابة لا تجامل.
وإذا كانت الشفافية هي حجر الزاوية في الحوكمة، فإن المحاسبة هي معيار صدقها. فكل عقد يُبرم مع طرف ذي علاقة خارج إطار العدالة والمنافسة، هو تهديد مباشر لثقة السوق. وكل مساهم يتنازل عن صوته، يترك الباب مفتوحًا لتحويل الشركة من أداة تنمية إلى أداة منفعة خاصة.
إن ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من النصوص، بل وعيًا يقظًا، ومساهمًا يعي، ومشرّعًا يتابع، وهيئات رقابية لا تكتفي بمراقبة الشكل، بل تنفذ إلى جوهر التعاملات. ففي بيئة تُساوى فيها الإفصاحات بالتبريرات، لا يبقى للمصلحة العامة من يحميها سوى مساهم مسؤول، ورقابة لا تجامل.