كشفت النشرة الربعية الموجزة لقطاع الأعمال الصادرة عن وزارة التجارة للربع الثاني من عام 2025 عن صورة مختلطة لأداء بيئة الأعمال في المملكة، حيث تبرز مؤشرات نمو في إجمالي السجلات التجارية القائمة بالتوازي مع انخفاض ملحوظ في وتيرة إصدار السجلات الجديدة. يُظهر التقرير إصدار ما يزيد عن 80 ألف سجل تجاري خلال الربع الثاني، وهو ما يمثل تراجعًا حادًا بنحو 34% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي التي شهدت إصدار أكثر من 121 ألف سجل تجاري. هذا الانخفاض، وإن كان يستدعي مزيدًا من التحليل من قبل الجهات الرسمية، يمكن أن يُفسر بعدة عوامل محتملة. لعل أبرزها قد يكون تباطؤًا في وتيرة النمو الاقتصادي العام، مما يدفع المستثمرين ورواد الأعمال إلى التريث في إطلاق مشاريع جديدة في فترات عدم اليقين. كما يمكن أن يشير إلى تشبع جزئي في بعض القطاعات بعد سنوات من النمو السريع، أو ربما يكون نتيجة لتغيرات في السياسات أو اللوائح المنظمة لقطاع الأعمال، أو حتى ارتفاع في تكاليف التشغيل التي تجعل الدخول إلى السوق أكثر تحديًا.
وعلى الرغم من هذا التراجع في السجلات الجديدة، فإن الأنماط الجغرافية للنشاط التجاري تظل ثابتة، مؤكدةً على الديناميكية الاقتصادية للمناطق الكبرى. فقد تصدرت مناطق الرياض أكثر من 28 ألف سجل، ومكة المكرمة نحو 14 ألف و500 سجل، والمنطقة الشرقية نحو 13 ألف سجل قائمة المناطق من حيث عدد السجلات المصدرة خلال هذا الربع، مما يؤكد مكانتها كمراكز اقتصادية حيوية وجاذبة للاستثمار التجاري. وفي سياق تفصيلي لأنواع الشركات، تتصدر الشركات ذات المسؤولية المحدودة المشهد بشكل واضح، حيث شكلت حوالي 11 ألف سجل من إجمالي السجلات المصدرة حديثًا، في حين بقيت أنواع الشركات الأخرى مثل التوصية البسيطة 7 شركات، والمساهمة 8 شركات، والمساهمة المبسطة 22 شركة، والتضامن 35 شركة عند مستويات محدودة للغاية. هذا يعكس تفضيل رواد الأعمال لهذا الكيان القانوني نظرًا لمرونته والمسؤولية المحدودة التي يوفرها للملاك، مما يجعله الخيار الأمثل للعديد من المشاريع الجديدة.
هذه النظرة على السجلات الجديدة تتكامل مع تحليل أوسع للسجلات القائمة التي تشكل العمود الفقري لقطاع الأعمال. فقد وصل إجمالي السجلات التجارية في جميع مناطق المملكة إلى 1.7 مليون سجل تجاري، وهو ما يمثل قاعدة قوية للنشاط الاقتصادي القائم. من اللافت للنظر أن 1.2 مليون سجل من هذا الإجمالي هي للمؤسسات الفردية، في حين أن الشركات تمثل حوالي 467 ألف سجل. هذا التوزيع يسلط الضوء على الهيكل الحالي لقطاع الأعمال السعودي الذي لا يزال يعتمد بشكل كبير على المشاريع الصغيرة والمتوسطة والمؤسسات الفردية، مما يشير إلى ضرورة تعزيز نمو الشركات ذات الهياكل الأكثر تعقيدًا. وكما هو الحال في السجلات الجديدة، تستمر منطقة الرياض في ترسيخ مكانتها كقلب اقتصادي للمملكة، حيث تستحوذ على النصيب الأكبر من السجلات القائمة بنحو 586 ألف سجل، تشكل حوالي 34.16% من الإجمالي العام. تليها منطقة مكة المكرمة بنحو 368.5 ألف سجل 21.48%، ثم المنطقة الشرقية بـ 269 ألف سجل 15.68%. هذه الأرقام تؤكد التوزيع الجغرافي للنشاط الاقتصادي في المملكة وتركز الثقل التجاري في المدن الكبرى، مما يطرح تساؤلات حول كيفية تحقيق تنمية اقتصادية أكثر شمولاً عبر المناطق.
إن فهم هذه الديناميكيات، وخاصة أسباب التباطؤ في إصدار السجلات الجديدة، سيكون حاسمًا في رسم السياسات المستقبلية لدعم وتنمية قطاع الأعمال السعودي وتحقيق مستهدفات الرؤية الاقتصادية. فمن أبرز التحديات التي يواجهها القطاع حاليًا هو تباطؤ إطلاق المشاريع الجديدة، مما يهدد ديناميكية السوق وخلق فرص العمل المستقبلية. يضاف إلى ذلك هيمنة المؤسسات الفردية على إجمالي السجلات، مما يستدعي تشجيع التحول نحو هياكل الشركات الأكثر تنظيمًا لضمان استدامة النمو، فضلًا عن تركز النشاط الاقتصادي في المدن الرئيسية، وهو ما يمثل تحديًا لتحقيق التوزيع المتوازن للتنمية. ومع ذلك، لا تخلو الصورة من فرص واعدة يمكن البناء عليها؛ فالقاعدة الضخمة من 1.7 مليون سجل تجاري قائمة توفر أساسًا متينًا للنمو، كما أن التحول الاقتصادي والرقمي ضمن رؤية 2030 يفتح آفاقًا واسعة لأعمال مبتكرة في قطاعات واعدة. كذلك، فإن تفضيل الشركات ذات المسؤولية المحدودة يعكس بيئة مرنة وجاذبة لرواد الأعمال، مما يوفر فرصة لتطوير برامج دعم مخصصة لهذا النوع من الكيانات.
بناءً على هذه المعطيات، تتجه التوصيات نحو ضرورة التحرك الفاعل. فالمطلوب من وزارة التجارة والجهات المعنية إجراء دراسات معمقة لأسباب الانخفاض في إصدار السجلات التجارية الجديدة لتحديد العوامل الجوهرية. وينبغي بعد ذلك تحفيز ريادة الأعمال من خلال تبسيط الإجراءات وتقديم حوافز مالية وتسهيل التمويل، خاصة للمؤسسات الصغيرة والناشئة، مع التركيز على القطاعات ذات النمو المرتفع. علاوة على ذلك، من الضروري دعم التحول الهيكلي للمؤسسات الفردية نحو كيانات شركات أكثر تنظيمًا مثل الشركات ذات المسؤولية المحدودة من خلال برامج توعية ودعم قانوني ومالي، مما يعزز استدامة ونمو هذه الأعمال. ولتحقيق التنمية الشاملة، ينبغي تعزيز التنمية الإقليمية خارج المدن الكبرى لجذب الاستثمارات وتوزيع الفرص بشكل متوازن. وأخيرًا، تُعد المراجعة المستمرة للوائح أمرًا حيويًا لضمان مرونتها ومواكبتها للمستجدات الاقتصادية العالمية، وتقليل أي عوائق بيروقراطية قد تؤثر على سهولة ممارسة الأعمال. إن تحقيق هذه التوصيات سيسهم في بناء بيئة أعمال أكثر قوة ومرونة، قادرة على استيعاب التحديات وتحويلها إلى فرص للنمو المستدام، بما يتماشى بوضوح مع أهداف رؤية المملكة 2030 الطموحة.