يُعدّ مؤشر التنافسية الصناعية العالمية أداة تقييم مهمة لقياس تقدم الدول وقدرتها التنافسية في القطاع الصناعي، إذ يعتمد على معايير شاملة تشمل الجوانب الاقتصادية والتكنولوجية والابتكارية والتنظيمية. ويُعد هذا المؤشر من إعداد مؤسسات بحثية أو منظمات دولية مرموقة مثل البنك الدولي، والمنتدى الاقتصادي العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية.
يعتمد المؤشر على مجموعة من العوامل الأساسية، من أبرزها: القدرة التصنيعية، التي تُقاس بحجم الإنتاج الصناعي وتنوع القطاعات وجودة المنتجات، بالإضافة إلى الابتكار والتكنولوجيا، والذي يُقاس من خلال الإنفاق على البحث والتطوير، وعدد براءات الاختراع، ومدى تبنّي التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات. كما يأخذ المؤشر في الاعتبار جودة البنية التحتية، بما في ذلك الطرق والموانئ وشبكات الطاقة والاتصالات، فضلًا عن كفاءة الموارد البشرية من حيث مهارات العمالة وجودة التعليم الفني والهندسي. ولا يُغفل المؤشر أهمية البيئة التنظيمية، التي تشمل سهولة ممارسة الأعمال، والاستقرار السياسي، والسياسات الضريبية، إلى جانب مدى تكامل الدول في سلاسل القيمة العالمية من خلال مشاركتها الفاعلة في التجارة الدولية وجذب الاستثمار الأجنبي.
تُصنَّف الدول وفقًا لأدائها في هذا المؤشر إلى عدة فئات؛ تشمل الاقتصادات الصناعية المتقدمة مثل ألمانيا، والولايات المتحدة، واليابان، وكوريا الجنوبية، والتي تمتاز بصناعات عالية التقنية وبنية تحتية متطورة وريادة في مجال الابتكار. وتندرج دول مثل الصين والهند والبرازيل وتركيا ضمن فئة الاقتصادات الصناعية الصاعدة، حيث تشهد نموًا صناعيًا سريعًا، لكنها لا تزال تواجه تحديات في مجالات الابتكار والبنية التحتية. أما الدول ذات الأساس الصناعي المحدود، والتي تعتمد إلى حدٍّ كبير على تصدير المواد الخام أو الصناعات الأولية، فتأتي في مراتب متأخرة نظرًا لضعف الاستثمار في التكنولوجيا والتصنيع المتقدم.
هناك أيضًا مؤشرات مكملة ذات صلة، مثل مؤشر التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، ومؤشر الأداء اللوجستي الذي يقيس كفاءة سلاسل الإمداد، بالإضافة إلى تصنيف منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية للقدرة التنافسية الصناعية. وتُعد هذه المؤشرات أدوات مهمة للحكومات لتحديد نقاط الضعف ووضع سياسات تنموية فاعلة، كما تُسهم في جذب الاستثمارات إلى الدول التي تتمتع ببيئة صناعية واعدة، وتوفر مقارنة واضحة بين أداء الدول النامية والمتقدمة في مسيرة التحول الصناعي.
تحتل المملكة العربية السعودية موقعًا متقدمًا نسبيًا في مؤشر التنافسية الصناعية، حيث تُصنّف ضمن الاقتصادات الصناعية الصاعدة، وتأتي في مراتب متوسطة إلى مرتفعة مقارنة بدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشير تقارير دولية إلى أن المملكة تحتل مراكز ضمن أفضل ثلاثين إلى أربعين دولة في بعض المؤشرات الصناعية، مع تقدم ملحوظ في مجالات الطاقة والتحول الصناعي.
يعود هذا التصنيف إلى عدة عوامل، أبرزها ريادة المملكة في قطاع الطاقة والصناعات البتروكيماوية بفضل وجود شركات عملاقة مثل أرامكو وسابك، ما يجعلها من أكبر مصدّري النفط والمنتجات البتروكيماوية عالميًا. كما تسهم البنية التحتية المتطورة في دعم التنافسية، إذ تضم المملكة شبكة طرق حديثة وموانئ استراتيجية مثل ميناء جدة الإسلامي، ومدنًا صناعية متكاملة مثل الجبيل وينبع. علاوة على ذلك، يُسهم التحول الرقمي والصناعي من خلال مشاريع رؤية 2030 الطموحة ، إلى جانب الاستثمار في التقنيات الحديثة كالذكاء الاصطناعي والروبوتات، في تعزيز مكانة المملكة الصناعية. وتسهم جهود تنويع الاقتصاد، عبر التوسع في الصناعات غير النفطية مثل السياحة والتعدين والصناعات العسكرية، في تحسين الأداء العام.
ومع ذلك، تواجه المملكة بعض التحديات التي قد تُؤثر على تنافسيتها الصناعية، من أبرزها الاعتماد الكبير على القطاع النفطي، الذي ما يزال مهيمنًا على الاقتصاد، مما يحدّ من تنوع القاعدة الصناعية. كما أن مستوى الإنفاق على البحث والتطوير لا يزال منخفضًا مقارنة بالدول الصناعية المتقدمة، بالإضافة إلى وجود فجوة في المهارات التقنية والهندسية لدى القوى العاملة المحلية. وتُعد تعقيدات بيئة الأعمال، بما في ذلك بعض الأنظمة والإجراءات البيروقراطية، من العوامل التي قد تُضعف جاذبية الاستثمار الأجنبي المباشر.
يُعد ضعف القيمة التصنيعية المضافة الناتجة عن الابتكار أحد العوامل التي تحدّ من تصنيف المملكة في المؤشر، حيث تُظهر البيانات انخفاض مساهمة الابتكار في القيمة المضافة للصناعات التحويلية مقارنة بالدول المتقدمة. ويعكس هذا الضعف تحديات في تحويل الأفكار الابتكارية إلى منتجات صناعية ذات قيمة عالية، مما يؤثر على تنافسية المملكة في المؤشرات الفرعية المتعلقة بالتصنيع المتقدم. ويتطلب تعزيز هذا الجانب مضاعفة الاستثمار في الربط بين البحث العلمي والتطبيقات الصناعية لرفع الإنتاجية والقيمة المضافة.
ولتعزيز موقع المملكة في المؤشر، يُمكن العمل على زيادة الاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا، من خلال رفع الإنفاق على البحث والتطوير، لاسيما في مجالات الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، مع دعم حاضنات الابتكار ومشاريع ريادة الأعمال الصناعية. كما يُعد تطوير الكفاءات البشرية عاملًا محوريًا، من خلال تحسين جودة التعليم الفني والهندسي، وتوسيع برامج التدريب في مجالات التصنيع الرقمي والصناعات المتقدمة.
ومن الضروري كذلك الاستمرار في زخم الاسراع في تحسين البيئة التنظيمية عبر تسهيل إجراءات تأسيس المشاريع، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز الاستقرار التشريعي، والاستمرار في مبادرات الحد من التعقيدات الإدارية . كما يُعد تعزيز التكامل في سلاسل الامداد والقيمة العالمية أمرًا أساسيًا، من خلال تنمية الصادرات الصناعية غير النفطية مثل المنتجات الكيميائية والمعادن، وعقد شراكات استراتيجية مع دول رائدة صناعيًا.
في الختام، تمتلك المملكة العربية السعودية مقومات كبيرة لتحسين ترتيبها في مؤشر التنافسية الصناعية، لا سيما في ظل رؤية 2030 الطموحة. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا التقدم يتطلب مضاعفة الجهود في مجالات الابتكار، وتنويع القاعدة الصناعية، وتحسين مناخ الأعمال. وفي حال تمكنت المملكة من معالجة هذه التحديات بفعالية، فإنها قد تقترب من مراتب الاقتصادات الصناعية المتقدمة خلال السنوات المقبلة