في الحادي عشر من يوليوز 1995 خُطّت واحدة من أحلك الصفحات في تاريخ أوروبا الحديث، حين أعدمت قوات صرب البوسنة، خلال أيام معدودات، أكثر من ثمانية آلاف رجل وفتى من مسلمي البوسنة، في منطقة صنّفتها الأمم المتحدة “آمنة”.
اليوم، وبعد ثلاثة عقود، مازالت المجزرة حاضرة بقوة في وجدان أهالي الضحايا، وفي ضمير الإنسانية، ولكنها لم تتحوّل بعد إلى وعي مشترك داخل الدولة الواحدة، ولا إلى قاعدة أخلاقية صلبة في النظام الدولي.
ما يجري في سربرنيتشا كل عام، من دفن متأخر لعظام مفردة، ومن مسيرات رمزية في الغابات، ليس مجرد استذكار لماضٍ مروّع، بل هو صراع مفتوح على المعنى:
هل تُنقش الذكرى الأليمة في جدار الضمير الجمعي؟ أم تُطمس في ركام الإنكار والتأويل؟
إن ما يجعل سربرنيتشا جرحًا لا يندمل ليس فقط فظاعة ما جرى، بل إصرار بعض القيادات السياسية حتى اليوم على إنكار الجريمة، أو التقليل من شأنها، أو تقديمها بوصفها “خلافًا في التأويل”.
ففي عام 2024 وحده سُجّلت أكثر من ثلاثمئة حالة إنكار أو تشكيك في المجزرة داخل الكيان الصربي في البوسنة، يتصدّرها الخطاب الرسمي.
هذا الإنكار لا يمحو الماضي، بل ينسفه من أساسه، ويغلق الطريق أمام مصالحة حقيقية مبنية على الاعتراف، لا على صمتٍ يريح الجلاد ويخذل الضحية.
وفي ظل هذا الإنكار تحوّلت عملية دفن رفات الضحايا إلى طقس مؤلم يتكرّر كل عام.
رفات غير مكتملة، قبور تشهد على أجساد مُبعثرة، وأمهات وأبناء لا يملكون سوى عظمة أو اثنتين ليرتاحوا إلى جوارها.
وهكذا فإن بقايا الأجساد الممزّقة لا ترمز فقط إلى بشاعة القتل، بل إلى تفكيك المعنى نفسه: معنى العدالة، ومعنى الاعتراف، ومعنى الوطن المشترك.
أمام هذا المشهد تبرز مسيرة “طريق الموت” السنوية – التي يسير فيها آلاف على خطى الناجين – بوصفها تعبيرًا عن التمسك بالذاكرة كفعل مقاومة.
لكنها مقاومة لا تكتمل إلا بربط الذاكرة بالمحاسبة، وبالقطع التام مع أي تبرير أو تمجيد للجناة.
لقد قدّمت محكمة لاهاي أحكامًا مهمة في حق قادة المجزرة، لكن المحاسبة القضائية، مهما بلغت، لا تُغني عن المحاسبة المجتمعية والسياسية.
فأن يُحاكم “ملاديتش” و”كارادجيتش” ثم يُنكر خليفتهما السياسي الجريمة هو مؤشر على أن الذاكرة لا تُبنى بأحكام المحكمة وحدها، بل بمناهج التعليم، وبالخطاب السياسي، وبالتزام المؤسسات الدولية بمنع تكرار المجازر، لا بالاكتفاء بتوثيقها بعد وقوعها.
إن سربرنيتشا، بعد ثلاثين عامًا، لم تعد فقط قضية ضحايا، بل قضية قيم عالمية مهددة: قيمة الحقيقة، وقيمة العدالة، وقيمة الإنسان.
وإن لم تتحوّل هذه الذكرى إلى دعوة مستمرة لمواجهة خطاب الكراهية، ومكافحة إنكار الجرائم الجماعية في أي مكان، فإنها ستبقى مجرد رقم مؤلم في ذاكرة العالم.
لقد آن الأوان لأن تكون سربرنيتشا درسًا فعليًا لا تذكارًا سنويًا.
درسًا بأن التعايش الحقيقي لا يقوم على طيّ الصفحات بل على قراءتها بصدق، وبأن المصالحة لا تُنتجها الذاكرة المجتزأة ولا الخطابات المزدوجة.
فلعلّ عَظْمة واحدة في تراب مقبرة “بوتوتشاري” تكفي لتذكير العالم بأن الإنسانية لا تُقاس بعدد الضحايا، بل بقدرتنا على الاعتراف بهم، والوفاء لذكراهم بما يليق بالعدالة وكرامة الإنسان.