تعودنا ألا نقرأ إلا للأسماء اللامعة والمعروفة، والمشهود لها بالكفاءة العلمية، وبالتجربة الكبيرة في دروب الكتابة…أما ما دون ذلك، فالاعتقاد السائد، أنهم كتاب مبتدؤون…يحتاجون إلى عمر آخر ليعترف لهم بأنهم أصحاب القلم الذي لا تأتيه الشوائب والعيوب من أي جانب…
سبب هذا الحكي، هو صدور رواية جديدة للكاتبة الطفلة عبير عزيم…بعنوان ” معبر جوج أبطال”…أنا لست ناقدا، ولا محللا للخطاب…ولا لغويا…أو لسانيا…ولا دارس أدب حتى…إلا أن ما استوقفني هي تشكلات وبنية العلاقة الثلاثية الأبعاد، بين الكاتبة والمتلقي والقضية…
فالكاتبة طفلة…والمتلقي مكتمل الرشد…والقضية قضية وطن…
عبير عزيم…طفلة من مواليد 2009…ولدت في مجال منسي من الوطن…تاهلة…إقليم تازة…منعرجات الجغرافيا في عناق متواصل مع منعرجات التنمية…لا يدري الزائر، ولا يدري أهل البلدة…أهم في حضر أم في بدو…أم لا هم في هذا ولا في ذاك…
رغم أن المقام بتاهلة…إلا أن الطفلة عبير اختارت، عن وعي أو عن غيره، أن يكون المجال الجغرافي لشخوص روايتها هو قبيلة الزيايدة بإقليم بنسليمان…وكأنها تعيد نسج حكاية الانتماء إلى هذا المجال…إنه الحنين الذي يسكن بنيان العائلة…وشوق دفين إلى تربة الصبى…ودفئ أحضان القبيلة المفقود…
عبير عزيم…فلتة قلم، سقطت سهوا من لائحة الانتظار الطويلة، من أجل الاعتراف لها بأنها موهبة ناشئة…كاتبة كبيرة من الحجم الصغير… لم تنتظر “النقاد” في ذلك الطابور ليرفعوها أو ينصبوها أو يجروها…
عبير عزيم…بدأت من أعلى، في غفلة من أصحاب الأقلام التي بحجم العصي…لم تكن لهم فرصة التلدد بقضم أظافرها أمام الملأ…
بعد الحمد والتصلية والسلام على الحبيب المصطفى…زينت عبارة: “محبة جنابنا الشريف الكاتبة الناشئة عبير عزيم”، صدر برقية التهنئة التي بعثها صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى الطفلة عبير…والتي تجسد العناية الملكية السامية بالطاقات والمواهب التي يزخر بها الوطن…
كانت البداية برواية ” شمس بحجم الكف”…رحلة صراخ صامت حضر فيه صوت من لا صوت لهم…أناس يملكون ما لا نملك…إلا أن القدر صنفهم بأنهم غير أسوياء…أو ما ألفنا أن نسمعه من ذوي الاختصاص: “أشخاص في وضعية إعاقة”…
عادت عبير عزيم مرة أخرى، لكن بصرخة في وجه الكبار…من خلال روايتها “معبر جوج أبطال”…رواية تسافر بالقارئ “الكبير” في رحلة ماتعة بين ماضي وحاضر ومستقبل الشعبين المغربي والجزائري…حضرت ثنائية الأحزان والأفراح جانبا إلى جنب…وغاب لغط السياسة وخبث صانعي المآسي بالعالم الآخر…شرق صالح للغروب فقط…
تناولت عبير-الطفلة الصغيرة-قضية كبيرة…
كبيرة بتعقيداتها المصطنعة من طرف الأعداء الحقيقيين للشعبين المغربي والجزائري…كابرانات فرنسا…
كبيرة بالزمن الثمين الذي ضيعوه على الشعبين الشقيقين لصنع مغرب كبير متراص البنيان…
كبيرة بإجهاض أحلام جيل من أبناء أقاليمنا الجنوبية في صحاري تندوف…لا هم من الأحياء ولا هم من الأموات…ينتظرون غدا بلا وجه…
ترفعت الطفلة الصغيرة في روايتها عن متاهات السياسة…وعن كل ما يفرق…وسافرت غير مبالية بالصراخ الأجوف لأعداء الشعب الجزائري الحقيقيون…أصحاب البدلات المزينة بنياشين الخيانة…لتقول بصوت طفولي: يدنا ممدودة لإخواننا الجزائريين…لنصنع جميعا عالما حالما…يسوده الاحترام المتبادل، والرغبة في بناء مغرب كبير، كله سلم وسلام…
لم تنبش الطفلة عبير في الماضي المؤلم الذي صنعه الكابرانات زمن حكم بوخروبة، صبيحة عيد الأضحى من عام 1975 بالمغاربة والجزائريين، حين فرقوا وقتها بين الزوج وزوجه…بين الوالد وما ولد…بين الجدة والحفيدة…بين الجار وجاره…
لم تقل الطفلة عبير أن ما تعرض له المغاربة من طرد جائر، لم يعرفه حتى عرب الأندلس على يد المسيحيين زمن محاكم التفتيش…ولم يعرفه أهل فلسطين زمن نكبات سنتي 1948 و1967، وغيرهما من النكبات على يد الصهاينة…فرغم كل البشاعات والتقتيل الممنهج، لم يفرقوا بين الأم وولدها، ولا بين الأب وابنه، ولا بين الجار وجاره…
لم تقل البنية عبير، إن كابرانات الجزائر هم من صنعوا جمهورية الوهم…وهم من يحتجزون العديد من مغاربة أقاليمنا الجنوبية في معسكرات التيه على تراب الجزائر…وهم من يعرقلون وحدة المغرب الكبير…وهم من قتلوا المغاربة الأبرياء في أمكالا والمحبس وكلتة زمور والحوزة وبئر لحلو وأم دريكة والمسيد وبئر أنزران، وغيرها من مناطق الصحراء المغربية…فيتموا الأطفال ورملوا النساء…
كانت البنية عبير مسالمة في كل شيء…تبحث عما يجمع الشعبين…وتتساءل ببراءة طفولية عن أسباب الفرقة التي لا صالحة لها بين الشعبين…قالت على لسان يوسف في الصفحة 129، حين تلقى طلبة المعهد العالي للإعلام والاتصال، مقالا جزائريا منشورا بجريدة رسمية، مسيئا للمغرب ولمؤسساته: “…الرد على الحماقة بحماقة أخرى لا يصنع إلا مزيدا من الحمق…”. وأضافت في الصفحة 130 على لسان الطالبة فاطمة قائلة: “…إنهم يحاولون جرنا إلى ساحة حرب كلامية، يختبؤون خلف الكلمات الرخيصة، بينما يخفون القضايا الحقيقية…”. وقالت في الصفحة 135 على لسان يوسف: “…أيها الجيران الكرام، إن بيننا أكثر من مجرد حدود رسمتها الجغرافيا أو رسمتها أيدي المستعمرين. بيننا وشائج ضاربة في عمق الزمن، كفاح مشترك من أجل الحرية، تضحيات نسجت خيوط مصيرنا الواحد، ذاكرة وطنية لا تميز بين جزائري أو مغربي. نحن أبناء الحكاية نفسها… “.
وتساءلت في الصفحة 171على لسان هدى من الجزائر قائلة: “… ماذا لو أدركنا أن الحدود الوحيدة التي تفصلنا هي تلك التي نحملها في عقولنا، وأننا الوحيدون القادرون على تجاوزها؟…”.
وختمت روايتها بلقاء رمزي تفاؤلي بين الشعبيتين المغربي والجزائري بمعبر “زوج بغال”، هذا الاسم/الوصم التي استعصى على شعبين تغييره لعقود…رغم تقديري لما تقدمه البغال-بكل أنواعها، للإنسانية من خدمات… إلا أن عبير استبدلته بمعبر “زوج أبطال”، راسمة بذلك لوحة طفولية غنية بالمعاني السامية، مجسدة بذلك رغبة المغاربة الدائمة في مد الجسور بين الشعبين المغربي والجزائري…
لقد بلغت الطفلة عبير رسالة سلام إلى قادة العالم الآخر…فهل من مجيب…أم على قلوبهم أقفالها…