أخبار عاجلة

لا لإسرائيل… لا لإيران

لا لإسرائيل… لا لإيران
لا لإسرائيل… لا لإيران

“حين تُجبَر الشعوب على أن تختار بين مستعمرَين، فهي لم تبدأ طريق التحرر بعد.” ـ فرانتز فانون.

في زمن تُصادَر فيه البوصلة، ويُختزل فيه الموقف إلى شعار، ويصبح “التضامن” امتحانًا إجباريًا في مادة الاصطفاف؛ يُخيَّر العربي، في لحظة من العبث التاريخي، بين أن يكون تابعًا لطهران أو ملحقًا بتل أبيب، وكأن الجغرافيا لم تنجب خيارًا ثالثًا، وكأن الوعي لا يكتمل إلا بالخندقة.

وإذا كان لا يزال فينا نبض يدل على أن الإنسان العربي لم يُمحَ تمامًا من التاريخ، وإذا كان ما يزال فينا أمل يؤشر على أننا ما نزال على قيد الحياة؛ فإن أول شروط استعادة هذا النبض وذلك الأمل هو الرفض الجذري لهذه الثنائية المهينة والقاتلة. لا لأننا نتهرّب من المواقف، بل لأننا نرفض أن نُختزَل في دور “الكومبارس” داخل مسرحية لم نكتب نصها، ولم نختر مخرجها، ولا نملك حتى مفاتيح الخروج منها.

لقد آن الأوان، كما قال إدوارد سعيد، أن “نستعيد موقعنا في سردية الصراع”. لا بأن نختار طرفًا ضد آخر، بل بأن ننسف المسرح كله، ونعيد تعريف “العرب”، وتعريف “الصراع الحقيقي”، وتعريف “الموقف” من موقعنا كعرب، لا من مواقعهم كأطماع توسّعية تحسبنا لقمة سائغة.

فالحياد في زمن الاستقطاب المأجور ليس تخليًا عن الموقف، بل هو بداية الوعي بأن خيارك الأول يجب أن يكون أنت، لا غيرك.

لقد آن الأوان لأن يخرج العرب من كمّاشة هذا الصراع الصهيوإيراني، وألا ينجرّوا أكثر نحو إعادة تدوير وهم الممانعة أو أمننة المنطقة على مقاس الأطماع الخارجية الرائجة في هذا الوقت العصيب.

فالتموضع بين محورين لا يحملان للعرب إلا مشاريع توسُّعية خارجية، وإن اختلفت الأقنعة والخطابات، والتخندق العربي الجاري الآن لا يعدو أن يكون محض انتحار وجودي بطيء.

يقول جورج أورويل: “الحرب ليست فقط سفكًا للدماء، بل أيضًا قتلٌ للحقيقة.”

وهكذا، تموت الحقيقة في حرب الشعارات، ويُفرض علينا أن نختار بين من يحتل الأرض، ومن يحتل الوعي، ومن يحتل الوجدان.

وما يزيد هذا الانتحار فداحة، هو أن الطرفين المتصارعين، إيران وإسرائيل، يتخذان من الأراضي العربية ساحة حرب دائمة، ومن الأنظمة العربية بيادق تفاوض لا أكثر.

وقد حذر إدوارد سعيد من هذا عندما قال: “حين تفقد الشعوب موقعها في سردية الصراع، تصبح مجرد أوراق في مفاوضات لا تخصها.”

ذلك أن جوهر الصراع لا يتمحور فعليًا حول البرنامج النووي الإيراني، ولا حول أمن إسرائيل، كما يُروّج في الخطاب الإعلامي الغربي والعربي، بل يتمحور حول سؤال: من يهيمن على الشرق الأوسط؟ وسؤال: من يُعيد ترسيم النفوذ في المنطقة عبر أدوات غير عربية، وعلى حساب السيادة العربية.

وهذا بالضبط ما تفعله طهران وتل أبيب، كلٌّ بطريقته: إعادة تشكيل الجغرافيا ورسم ملامح سيادة عربية زائفة، عبر أدوات محلية أو مقاولين إقليميين.

فإيران لا تخوض معاركها داخل حدودها، بل عبر شبكات من الميليشيات العقائدية العابرة للحدود، من لبنان إلى اليمن، مرورًا بسوريا والعراق.

وحزب الله، والحوثي، وحماس ـ بصرف النظر عن سردياتهم التعبوية، هم أدوات تنفيذية في مشروع التوسع الإيراني، الذي لا يختلف في جوهره عن التوسع الصهيوني سوى في اللغة والشكل والعقيدة.

وكما قال حنّة آرندت: “حين تتحول الفكرة إلى أداة للسيطرة، تُصبح أخطر من أي سلاح.”

وفي المقابل، فإسرائيل لا تردّ على هذه الشبكات/الميليشيات فقط، بل تستخدمها كذريعة دائمة لتبرير تغوّلها الأمني وشرعنة ضرباتها العسكرية في عمق الأرض العربية، في مشهد بات يُفقد السيادة معناها، ويُجهز على ما تبقى من الكرامة الوطنية في كثير العواصم.

لذلك كتب مالك بن نبي ذات يوم ليقول إن “الاستعمار لا يدخل من الباب، بل من قابلية الاستعمار داخل العقول.”

إن بقاء العرب في موقف المتفرج لم يعد مجرد تعبير عن ضعف الإرادة السياسية، بل هو تجلٍّ مرير لانكسار الوعي، وانهيار القدرة على إنتاج موقف مستقل. فالمتفرج ـ في حروبٍ تُخاض فوق أرضه، وبأسماء وشعارات تخصه ظاهرًا ـ ليس فقط غائبًا، بل مُغَيَّبٌ قسرًا، تم تحويله إلى كائن فائض عن الحاجة في سرديةٍ لم يعد يملك مفاتيحها ولا حق تعديل نهايتها.

إن الصمت في زمن الخديعة لا يُبرَّر، والمراوحة في منطقة الانتظار ليست حيادًا، بل شكل من أشكال الإذعان الناعم.

فإمّا أن يُنتج العرب أن يُنتجوا مشروعًا سياديًا يعيد تعريف أمنهم القومي خارج وصاية طهران أو رعاية تل أبيب، مشروعًا لا يبدأ من الدفاع عن الخرائط، بل من الدفاع عن الإنسان، ولا يُقايض مقاومة الاستعمار بتوسيع الاستبداد، ولا يستبدل الاحتلال بالقمع المؤدلج؛ وإما سنُدفع، جيلاً بعد جيل، إلى الخنادق التي لم نحفرها، وإلى الصفوف الخلفية في معارك لم نختَر توقيتها ولا مسرحها، نُزجُّ باسم “قضية عادلة” تارة، وباسم “تحالف سلام” تارة أخرى، في حين نظل، واقعيًا، وقودًا لخريطة جيوسياسية لا مكان فيها لصوتنا، ولا دور فيها لأجسادنا سوى أن تكون ساحة قتال.

وهنا لا فرق بين مَن يقصف باسم “الدفاع المشروع”، ومن يطلق الصواريخ باسم “الثأر العقائدي”؛ فالنتيجة واحدة: دم عربي على الأسفلت، وخراب عربي على الشاشات، وقرار عربي غائب عن طاولة القرار.

فإيران، بقناع “محور المقاومة”، لا تخوض حربًا دفاعية، بل توسعية، عبر أذرع أيديولوجية تخترق السيادات وتُذيب الدول في الميليشيات.

وإسرائيل، بذريعة “الردع”، لا تُحصّن نفسها، بل تفرض معادلة تفوّق لا تعترف بالعرب إلا كـ”مهدّد محتمل” أو “شريك تابع”، وكلاهما يريد الشرق الأوسط، لكن بدون العرب، وكلاهما يريد الأرض، والموانئ، وخطوط الغاز، والجبهات… لكن بدون صوت، ولا ذاكرة، ولا سيادة عربية.

ومن يختار الاصطفاف خلف أحد الطرفين، لا يختار موقعًا في المعركة، بل يختار شكلاً جديدًا من الخضوع.

وقد لخّص الفيلسوف الألماني إريك فروم هذه المفارقة حين كتب:

“أسوأ أشكال العبودية أن تظن أنك حر لأنك اخترت بين سجنين.”

نحن لا نختار بين مقاومة واحتلال، بل بين احتلالَين يختلفان في الخطاب، ويتفقان في النتيجة: مصادرة الإرادة العربية، وتجريف القرار العربي.

فإلى متى نبقى شهود زور على مشهد يعاد تمثيله كل مرة بلغة مختلفة وسيناريو متشابه؟

إلى متى نُقايض كرامتنا بـ”الأمن الاستراتيجي”؟

إلى متى نظلّ نُصفق لطرف ضد طرف، بينما كلاهما يرقص فوق أطلالنا؟

ومتى نقول، أخيرًا، بلا مواربة، وبملء الصوت والوعي والحق:

لسنا مع أحد… نحن مع أنفسنا.”

نحن مع الإنسان، لا مع الكتائب، ولا مع الميليشيات، ولا مع الدبابات.

نحن مع فلسطين… لا مع طهران ولا مع تل أبيب.

نحن مع المستقبل… لا مع خرائط الدم.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق "التنمية المحلية": نسعى لتعزيز مساهمة القطاع الخاص بإدارة المخلفات
التالى حضرت احتفالية.. محامي نوال الدجوي يرد على تحدي الخصوم: "الدجوي في كامل قواها العقلية