لثلاثة عقود، حملت عبارة “صنع في الصين” وصمةَ الجودة المتدنية والسعر الزهيد. لكن المفارقة التاريخية تكمن في تحوُّل هذه العبارة نفسها إلى شهادةٍ على أعظم نهضة صناعية في القرن الحادي والعشرين.
خطة “صنع في الصين 2025” لم تكن سياسةً عابرة، بل زلزالاً أعاد تشكيل خريطة الصناعة العالمية من جذورها، محوِّلة الصين من “مصنع العالم” إلى “مختبره التكنولوجي الأكثر رعباً وإبهاراً”، على حد تعبير صحيفة “الفاينانشال تايمز” في عددها الصادر بتاريخ 28 مايو 2023.
تشير الأرقام إلى إنجازات مذهلة قلّ نظيرها في العصر الحديث: فقد قفزت حصة الصين في سوق الروبوتات الصناعية من 7% إلى 40% خلال عقد واحد، فيما تضاعفت صادراتها من السيارات الكهربائية 120 مرة، لتستحوذ على 70% من إنتاج بطاريات الليثيوم عالميًا. أما الإنفاق على البحث والتطوير، فقد بلغ 2.4% من الناتج المحلي، ما يعادل 400 مليار دولار سنويًا.
هذا التحول لم يكن محض صدفة، بل نتاج ثلاثية حاسمة: دعم حكومي مباشر يفوق 300 مليار دولار سنويًا عبر إعفاءات ضريبية وتوفير أراضٍ بأسعار رمزية؛ تكامل صناعي جعل من الصين قارة إنتاجية مغلقة تنتج كل شيء من رمال السيليكون إلى بطاريات السيارات؛ وحماية ذكية للسوق المحلي من خلال معايير تقنية صارمة وضرائب غير مباشرة على المنتجات المستوردة تصل إلى 25%.
لكن هذا النجاح الباهر لم يخلُ من أعباء ثقيلة: ديون الشركات تجاوزت 170% من الناتج المحلي، وهي نسبة أعلى من تلك التي أطاحت بالاقتصاد اليوناني في أزمته الكبرى. وفائض الإنتاج الهائل، مثل إنتاج 100 مليون طن من الفولاذ سنويًا – أي ضعف حاجة السوق العالمية – يهدد بإغراق الأسواق وتفجير حروب تجارية.
أما على الصعيد التكنولوجي، فقد تسببت العقوبات الغربية على أشباه الموصلات في خسائر قُدرت بنحو 200 مليار دولار عام 2022 وحده، ما دفع بكين إلى تسريع محاولات الاستقلال التكنولوجي.
اليوم، ومع إطلاق مرحلة “صنع في الصين 2035″، تبدو الصين أكثر ثقة من أي وقت مضى في قدرتها على فرض نموذجها الصناعي على العالم. قدرتها، على سبيل المثال، على إنتاج الألواح الشمسية بأسعار تقل بـ60% عن التكلفة الأوروبية، تهدد وحدها 5 ملايين وظيفة صناعية حول العالم بحلول عام 2030، بحسب تقديرات منظمة التجارة العالمية.
وبينما ضخت الصين 8 تريليون دولار في الصناعات الاستراتيجية خلال العقد الماضي، لم تتمكن الولايات المتحدة من تجاوز حاجز 2.4 تريليون دولار.
ما تفعله الصين اليوم هو تحطيم كامل لأسطورة “اليد الخفية للسوق”، لتؤكد أن التفوق الصناعي لا يُمنح بالتنافس المفتوح فقط، بل يُكتسب بالتصميم، والتخطيط، والقدرة على كسر القواعد السائدة. كما لخص جوزيف ستيغليتز، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2001: “الغرب أخطأ بظنّ أن الصين ستكون تلميذًا مطيعًا… لقد أصبحت المعلم القاسي”.
السؤال المصيري لم يعد: هل يمكن وقف الصعود الصيني؟ بل أصبح: هل يستوعب العالم أن التاريخ لا يُكتَب بأيدي من يكرّرون القواعد القديمة، بل بمن يجرؤون على إعادة صياغتها؟
الصين لم تعد تتوسل مقعدًا على طاولة الصناعة العالمية، بل صمّمت طاولتها الخاصة، وتركت للعالم خيارًا لا ثالث له: إما الجلوس لتعلُّم لغتها الصناعية الجديدة، أو الانزواء على هامش التاريخ.