في ظل أزمة تغير المناخ المتسارعة، لم تعد أيّ ممارسة إنسانية بمنأى عن آثار البيئة المتغيرة، بما في ذلك الشعائر الدينية الكبرى مثل الحج.
ويعدّ الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، ويمثّل تجربة روحية فريدة للمسلمين حول العالم، إذ يشكّل التجمع السنوي لملايين المسلمين في مكة المكرمة أكبر التجمعات البشرية على وجه الأرض، مما يفرض تحديات بيئية تتطلب حلولًا مستدامة.
يُشكّل الحج تحديًا بيئيًا في ظل أزمة تغير المناخ المتسارعة، ويستدعي إيجاد حلول مبتكرة لضمان استدامته دون التأثير بقدسيّته.
تحاول السعودية من خلال الإجراءات الجديدة لموسم حج 2025، مواجهة تحديات تغير المناخ بتعزيز السلامة وتخفيض التأثير البيئي.
ومع ذلك، فإن المسؤولية في تحقيق استدامة الحج لا تقتصر على الدولة المستضيفة وحدها، بل تمتد أيضًا إلى الدول التي يأتي منها الحجاج.
الاستدامة في موسم الحج
استجابة للتحديات المتزايدة المرتبطة بتنظيم موسم الحج، أعلنت السلطات السعودية مجموعة من الإجراءات الجديدة لحج 2025 تهدف إلى تعزيز الكفاءة والسلامة وتقليل الضغط على الموارد.
وشملت الإجراءات حظر اصطحاب الأطفال لضمان سلامتهم في ظل الزحام، ومنح الأولوية للحجاج الذين يؤدون الفريضة لأول مرة، بما يتيح عدالة أوسع في فرص الأداء.
كما عُدِّل نظام التأشيرات ليقتصر على دخول واحد فقط لـ 14 دولة، للحدّ من الحج غير النظامي. وللتخفيف من الأعباء المالية، أُقِرَّت خطط دفع مرنة للحجاج المحليين، إذ شملت الإجراءات اعتماد آلات تصوير ذكية تعمل بالذكاء الاصطناعي لرصد الحجاج غير المسجلين وتحسين إدارة الحشود، إلى جانب تطوير البنية التحتية، خاصة في النقل والمرافق الصحية، بما يعزز كفاءة الخدمات واستدامة الموسم.

إلى جانب الإجراءات الأمنية والتنظيمية، اعتمدت السعودية إجراءات عملية، شملت:
- تقليل النفايات، بتوفير حاويات للفرز وتشجيع استعمال المواد القابلة لإعادة التدوير.
- ترشيد استهلاك المياه عبر تجهيزات موفرة وحملات توعية.
- التوسع في استعمال الطاقة المتجددة لتقليل الانبعاثات الكربونية.
وتعكس الإجراءات التزام المملكة بأهداف الاستدامة وخفض الانبعاثات الكربونية ضمن رؤية 2030.
التحديات البيئية لموسم الحج
يواجه موسم الحج تحديات بيئية متزايدة تتطلب حلولًا مستدامة، أبرزها الانبعاثات الكربونية المرتفعة الناتجة عن النقل الجوي والبري، إذ يشكّل السفر الجوي وحده نحو 60% من إجمالي الانبعاثات، ويبلغ متوسط البصمة الكربونية لكل حاج نحو 60.5 كغم من ثاني أكسيد الكربون يوميًا.
كما يستهلك الموسم كميات ضخمة من الطاقة، تعتمد فيها بشكل رئيس على الوقود الأحفوري، ما يفاقم البصمة الكربونية، في حين تسعى السعودية إلى التحول نحو الطاقة المتجددة للحدّ من ذلك.
وتُعدّ إدارة النفايات تحديًا حرجًا، إذ يُنتج موسم الحج أكثر من 30 ألف طن من النفايات الصلبة في منى وحدها، إضافة إلى آلاف الأطنان في عرفات ومزدلفة، معظمها من المواد البلاستيكية ذات الاستعمال الواحد، ما يتطلب أنظمة فعّالة للفرز والتدوير.
من جهة أخرى، يؤدي الضغط على الموارد، خصوصًا المياه، إلى استنزاف كبير في ظل الطلب المرتفع.
أمّا تغيُّر المناخ، فقد أصبح تهديدًا مباشرًا، إذ شهد موسم 2024 درجات حرارة قياسية بلغت 51.8 درجة مئوية في مكة، في ظل توقعات بزيادة وتيرة موجات الحر بفعل الاحتباس الحراري، مع ارتفاع إقليمي في درجات الحرارة بمعدل 0.4 درجة مئوية كل عقد.

دور الحجاج في تحقيق الاستدامة
يؤدي الحجاج دورًا محوريًا في دعم جهود الاستدامة خلال الحج في عصر تغير المناخ من خلال ممارسات سهلة وفعّالة، مثل استعمال زجاجات مياه قابلة لإعادة الاستعمال، والامتناع عن المواد البلاستيكية ذات الاستعمال الواحد، مما يسهم في تقليل النفايات والضغط على الموارد.
ولتحقيق حجّ أكثر استدامة، يُوصى بمجموعة من الإجراءات، أبرزها:
- تعزيز التوعية البيئية للحجاج قبل الموسم وفي أثنائه، من خلال حملات إرشادية تُبرز أهمية الحفاظ على البيئة.
- تطوير بنية تحتية مستدامة تعتمد على الطاقة المتجددة وأنظمة فعّالة لإدارة النفايات.
- ضرورة تعزيز التعاون الدولي، من خلال تنسيق الجهود بين الدول الإسلامية والمنظمات البيئية لوضع إستراتيجيات موحّدة.
- تشجيع البحث والابتكار في مجالات التقنيات الخضراء، بما يعزز القدرة على التكيف مع التحديات البيئية المتزايدة.
وبناءً على ذلك، أقترح أن تتحمل الدول المرسِلة للحجاج مسؤولية إضافية، من خلال تنظيم دورات تدريبية قبل موسم الحج لا تركّز فقط على الجوانب الفقهية، بل تتضمن توعية شاملة بكيفية التفاعل الإيجابي مع البيئة خلال أداء الشعيرة.
ويجب أن تشمل الدورات شرحًا ميسّرًا وعمليًا لما يُستَحدَث من أدوات وتقنيات، سواء تلك المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في إدارة الحشود، أو بالممارسات الصديقة للبيئة، مثل إدارة النفايات، وترشيد الموارد، واستعمال المواد القابلة لإعادة الاستعمال.
ويُسهم بناء وعي بيئي لدى الحجاج قبل انطلاقهم إلى الأراضي المقدسة، بالتنسيق بين الدول والجهات المشرفة على التنظيم، في تقليل الأثر البيئي، ويدعم توجهًا عالميًا نحو شعائر دينية أكثر انسجامًا مع متطلبات كوكب يعاني من الضغط البيئي والمناخي.
ولا تُبنى استدامة الحج فقط من خلال البنية التحتية أو الأنظمة، بل من خلال وعي الحاجّ نفسه، واستعداده لأن يكون جزءًا من الحل.
* د. منال سخري - خبيرة في السياسات البيئية والتنمية المستدامة
* هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..