يُعدّ أحمد بن ماجد، المولود في جلفار (رأس الخيمة حاليًا) في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، واحدًا من أعظم الرحّالة والبحّارة العرب والمسلمين الذين سطّروا أسماءهم بأحرف من نور في تاريخ الملاحة البحرية. وقد لُقّب بألقاب عديدة تعكس مكانته الفريدة مثل أسد البحار وأمير البحر وشهاب الحق ومعلم البحر، وكلها تعكس الهيبة التي حظي بها، والإنجازات التي أضافها إلى علم الملاحة والفلك والجغرافيا البحرية.
رائد علم الملاحة
تميّز ابن ماجد بكونه عالمًا قبل أن يكون بحّارًا مغامرًا. فقد درس الرياضيات وعلم الفلك والخرائط، وأبدع في وضع القواعد والأسس التي تنظّم علم الملاحة. وقد ألّف عددًا كبيرًا من الكتب والقصائد العلمية التي جمعت خبراته، لكن أبرزها على الإطلاق كتاب "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"، الذي يُعتبر موسوعة متكاملة للملاحة البحرية. في هذا الكتاب وضع ابن ماجد أسسًا علمية لتحديد الاتجاهات البحرية، وشرح فيه استخدام البوصلة، وحركة النجوم، ودائرة الأفق، وكيفية الاستدلال على المواقع في البحار والمحيطات.
لم يكن ابن ماجد مجرّد ناقلٍ للمعرفة، بل مطوّرًا لها؛ إذ ابتكر أدوات وأساليب عملية مكّنت البحّارة من الإبحار بأمان عبر المحيطات. وبفضله، أصبحت الطرق البحرية بين شبه الجزيرة العربية والهند وشرق إفريقيا أكثر وضوحًا وأمانًا، وهو ما ساهم في ازدهار التجارة البحرية العربية في عصره.
بين الأسطورة والحقيقة
ارتبط اسم أحمد بن ماجد، للأسف، باتهامات تاريخية حاولت النيل من مكانته، إذ زعم بعض المؤرخين الأوروبيين أنه رافق المستكشف البرتغالي فاسكو دي غاما وساعده في عبور المحيط الهندي نحو الهند. لكن هذه المزاعم تفتقد للأدلة القاطعة، إذ لم يذكر ابن ماجد في كتبه أي إشارة إلى مرافقة دي غاما، كما أن العديد من الباحثين العرب والأجانب يؤكدون بطلان هذه الادعاءات، معتبرين إياها جزءًا من محاولة طمس دور العرب في تاريخ الملاحة البحرية. بل إن المنصفين يرون أن الحقيقة المعاكسة قد تكون أصح: لو التقى دي غاما بابن ماجد بالفعل، لكان الأخير هو القائد والمرشد، لا مجرد تابع.
إرث خالد
لا يقتصر إرث ابن ماجد على كتبه فحسب، بل يمتد إلى منهج فكري كامل في التعامل مع البحر. فقد علّم أتباعه أن الإبحار ليس مجرد مغامرة، بل علم قائم على الدقة والانضباط والمعرفة. لذلك، صار يُنظر إليه باعتباره مؤسس مدرسة بحرية عربية، تخرج منها العديد من البحّارة الذين واصلوا مسيرة الاستكشاف والتجارة.
كما عبّر ابن ماجد عن علاقته بالبحر شعرًا ونثرًا، فخلّد مغامراته في أبيات شعرية تصف رهبة الموج، وشموخ الرياح، وجمال الرحلات البحرية. وقد أسهم ذلك في جعل سيرته تجمع بين الصرامة العلمية وروح المغامرة الإنسانية.
مكانته في القرن الـ21
على الرغم من مرور أكثر من خمسة قرون على رحيله، لا يزال أحمد بن ماجد حاضرًا في وجدان العرب والمسلمين، بل وحتى في الدراسات الأكاديمية العالمية. تُدرّس كتبه وأفكاره في الجامعات كمراجع أساسية لفهم تطور علم الملاحة. كما يراه كثيرون رمزًا للهوية البحرية العربية، ودليلًا على أن العرب كانوا روادًا في استكشاف البحار ورسم الخرائط، قبل أن يسطع نجم المستكشفين الأوروبيين.
لقد كان أحمد بن ماجد بحق أسد البحار، لا لأنه جاب المحيطات بشجاعة فقط، بل لأنه جمع بين العلم والتطبيق، بين النظرية والممارسة. هو رجل قدّم للعالم إرثًا خالدًا من المعارف التي فتحت طرق التجارة، وأمنت سبل الإبحار، ورفعت من شأن الحضارة العربية الإسلامية. وإن من ينظر إلى سيرته اليوم، يرى فيها مصدر فخر، ورسالة تلهم الأجيال الجديدة على الجمع بين حب المغامرة وروح العلم.
فابن ماجد لم يكن مجرد بحّار من الماضي، بل هو مدرسة حيّة تُذكّرنا بأن الإبداع والمعرفة هما السفينتان اللتان تقودان الأمم إلى شواطئ المجد.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل الإخباري يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.