بمناسبة اليوم الدولي للشباب أجمع باحثون وأكاديميون مغاربة على أن التطور الرقمي والانتشار الواسع لمنصات وسائل التواصل الاجتماعي أحدثا تغيرات جوهرية في أنماط التواصل والتعبير اللغوي والهوياتي في أوساط فئة واسعة من الشباب المغربي، وهو الأمر الذي يتطلب فهمًا دقيقًا لطبيعة الفرص والتحديات المطروحة أمام هذه الفئة من المجتمع في التوفيق بين الأصالة الثقافية والانفتاح على العولمة الرقمية.
وأكد الباحثون الذين تحدثوا لجريدة هسبريس الإلكترونية في هذا الشأن أهمية تسلح الشباب المغربي بالذكاء المعرفي والحس النقدي والمناعة اللازمة لمواجهة مخاطر الاستلاب الفكري في العالم الافتراضي، وتفادي الانجرار وراء الإيديولوجيات الرقمية الجارفة التي قد تكرّس لديهم الشعور بالدونية والتهميش وتوجههم نحو الانحراف، بما يعزز قدراتهم على الحفاظ على لغتهم وهويتهم وتقديرهم لذاتهم، وعلى التفاعل الإيجابي مع العالم الرقمي.
ضرورة حضارية وأدوار مؤسساتية
خالد التوزاني، أستاذ جامعي ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، قال إن “اختيار المغرب سياسة الانفتاح وتبني توجه ديمقراطي، مدعومًا بانتشار الإنترنت والهواتف الذكية، وضع الشباب المغربي في قلب ثورة رقمية غير مسبوقة، وخاصة بعد جائحة كورونا، حيث كان لهذه التحولات تأثير واضح في لغة التواصل اليومية، فقد أصبحت المنصات الرقمية تجمع بين أشكال متعددة من اللغات، إذ تخلق مزيجًا من الدارجة المغربية والعربية واللغات الأخرى؛ غير أن ذلك لا يعني فقدان الهوية المغربية، بل على العكس استفاد الشباب المغربي من الثورة الرقمية في إحياء رموز الثقافة المغربية التراثية”.
وأضاف التوزاني أن “هذا الجمع بين الأصالة والمعاصرة هو أحد تجليات العبقرية المغربية في التعبير عن القدرة على التكيف مع مختلف الظروف والمستجدات، دون فقدان الهوية، وفي الوقت نفسه مع الانخراط في الحداثة، ودون أي إحساس بالنقص أو الحرج من المزاوجة بين العربية المغربية واللغات العالمية؛ فنجد مثلاً كلمة: ‘كيفاش’ قد تُكتب kifach بالحروف الأجنبية، ونجد استخدام عبارة “لايك” عوض كلمة “إعجاب”، وهكذا”، وزاد: “هناك تأثير طبيعي لمواقع التواصل الاجتماعي على لغة الشباب، لكنه لا يهدد الهوية المغربية بقدر ما يجعلها هوية قادرة على ولوج العالمية”.
وتابع المصرح لهسبريس بأن “التغييرات التي تقع حاليًا في لغة الشباب المغربي تعد طبيعية وضرورة حضارية، لأن المغاربة لا يتواصلون مع بعضهم البعض فقط، وإنما استطاعوا خلق جسور من لقاء الثقافات مع حضارات أخرى من أقصى الشرق والغرب، حيث تعد المنصات الرقمية فضاءً للشباب المغربي للتواصل وللتعريف برموز الهوية المغربية، سواء عبر المحتوى المحلي أو عبر الانفتاح على ثقافات عالمية”، مبرزًا أن “هذا التفاعل يُنتج هوية تزاوج بين الأصالة والتجديد، أي إنها تعترف بالجديد الوافد دون التخلي عن الثوابت والأصول”.
وسجل المتحدث ذاته أن “المؤكد أن التغير اللغوي والثقافي سنة طبيعية، خاصة في عصر الرقمنة، لكنه يحتاج إلى توجيه لضمان ألا يؤدي إلى قطيعة مع الجذور”، مردفا: “الإشكالية ليست في التغيير نفسه، بل في التوازن بين الأصالة والانفتاح؛ ولذلك أعتقد أنه ينبغي التمييز بين التطور الطبيعي للغة والهوية وبين التغريب والاستلاب المفرط الذي يُفقد الهوية خصوصيتها وفرادتها”.
وذكر رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي أنه “في ظل الثورة الرقمية التي يعيشها المغرب أصبح لزامًا على المؤسسات التعليمية والثقافية أن تلعب دورًا استباقيًا وليس مجرد رد فعل، من خلال سياسات عملية تعترف بتحولات العصر دون التضحية بالهوية، تنمي تعليم اللغات العالمية وفي الوقت نفسه تعمل على تعزيز حضور ‘تمغربيت’ في شخصية الشباب المغربي”.
ولتحقيق ذلك اقترح الأستاذ الجامعي ذاته “إدماج التربية الرقمية في المناهج الدراسية والمقررات التعليمية، مع الاهتمام بتقوية الوعي النقدي تجاه المحتوى الرقمي وتحليل الخطاب، إلى جانب العمل على رقمنة التراث المغربي وإعادة إبرازه بأشكال جديدة معاصرة تجعله منتجًا عالميًا، مثل الموروث الشعبي، كالحكايات المغربية الشعبية والأغنية المغربية ومظاهر الاحتفال بالمناسبات، والقيم المغربية الأصيلة، مثل التضامن والتراحم والتعاون والوحدة والكرم؛ بحيث يتم التعبير عن هذه الهوية بلغات متعددة، ومنها اللغات الوطنية الرسمية، قبل الانفتاح على اللغات العالمية، وجعل الشباب المغربي في صلب هذه المبادرات”.
وخلص التوزاني إلى أن “التحول الرقمي للغة والهوية ليس تهديدًا إذا تمت إدارته بذكاء وبُعد نظر، خاصة أن المغرب مقبل على تنظيم تظاهرات عالمية، ويعيش طفرة استثمارية واقتصادية هائلة، تقتضي مزيدًا من الانفتاح اللغوي، وهو ما يؤكد أن الثقافة المغربية تاريخيًا قائمة على التنوع والتكيُّف، فيما الشباب اليوم يبتكرون أشكالًا جديدة للتعبير عن أنفسهم، والمطلوب هو سياسات ثقافية وتعليمية لا تُنكر الواقع الرقمي، بل تستثمره لصالح الهوية المغربية المتجددة”.
خصوصيات سيكولوجية وإيديولوجية رقمية
مصطفى السعليتي، أستاذ ورئيس شعبة علم النفس بكلية الآداب بجامعة القاضي عياض بمراكش، قال إن “محتويات وسائل التواصل الاجتماعي أو العالم الافتراضي عمومًا أثرت وتؤثر ومازالت بشكل كبير في الطريقة التي يدرك بها الإنسان مجموعة من المواضيع أو تلك التي يتمثل بها ذاته والآخر”، مضيفًا أن “ما نستهلكه وما نستقبله في حياتنا اليومية من صور ومن معلومات منتشرة على العالم الافتراضي أصبح بالنسبة للعديد من الأشخاص، خاصة الشباب، هو المصدر الأساسي في بناء الآراء وتأويل الأحداث على الواقع”.
وأوضح السعليتي، في حديث مع جريدة هسبريس الإلكترونية، أن “تأثيرات العالم الافتراضي على الشباب خاصة وفئة المراهقين يمكن أن تكون إيجابية أو سلبية حسب الخصوصيات الثقافية والسيكولوجية لكل شخص، وحسب درجة الذكاء المعرفي”، مبرزًا أن “علاقة الإنسان اليوم بهذا العالم الافتراضي لا يمكن أن نعتبرها علاقة ميكانيكية سطحية، بل علاقة مركبة، ذلك أنه يتعامل مع هذا العالم بهويته الحقيقية”.
وسجل أستاذ علم النفس ذاته أن “تأثير محتويات وسائل التواصل الاجتماعي يظهر جليًا في اللغة الرقمية التي اقتحمت لغة التداول اليومي للشباب والمراهقين، وهي لغة بعيدة كل البعد عن المرجعيات الثقافية والهوياتية المحلية، وبالتالي يجب الانتباه إلى هذا الأمر لأن هذه اللغة ليست مجرد مفردات تقتحم مجال التداول، بل هي سلطة تمارس تأثيرًا على الحالات والأفكار وكذا العلاقات الاجتماعية”.
وأشار المتحدث ذاته إلى أن “هناك أيضًا مجموعة من الصور النمطية التي يدركها الشباب على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي وتؤثر هي الأخرى في هويتهم وفي تمثلاتهم حول أنفسهم، بمعنى أن الشباب الآن أصبح يفتقد للدراية الموضوعية للواقع أو يدركه بشكل خاطئ أو جزئي، نتيجة تأثير هذه الصور التي قد تؤدي إلى الشعور بالدونية والإقصاء والعجز إذا ما تم إسقاطها على العالم الواقعي، وبالتالي التفكير في حلول للهروب من هذا الواقع من خلال اللجوء إلى استهلاك المخدرات أو حتى الانتحار”.
وشدد السلعيتي على أن “بعض محتويات العالم الرقمي قد تؤدي إلى استيلاب فكري وقلق نفسي لدى فئة الشباب، وبالتالي يمكن القول إن هذه الدينامية الرقمية يمكن أن تساهم في بناء الهوية والمعرفة، أو في تدميرها حسب كيفية التعامل معها، وعليه فعلى الشباب أن يكون مسلحًا معرفيًا وألا يكون هشًا ثقافيًا أو سيكولوجيًا لأن هذه الهشاشة لا تستطيع أن تواجه هذه الإيديولوجية الرقمية الجارفة، وهذه القوى الخفية التي تصنع بالإنسان ما تشاء دون أن يشعر بتأثيرها الخطير”.