“لا مدنية طبقية.. ولا قطبية تجترح خطيئة المنبوذين”
قد تتنحى القراءة الكلاسيكية لأحداث نشوء القطبية الثنائية في العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بتراجع نفوذ القوى الأوروبية الكولونيالية الممثلة في بريطانيا وفرنسا، لصالح تصاعد نفوذ قوتين جديدتين متعارضتين من حيث النظام السياسي والاقتصادي – رغم تحالفهما المؤقت خلال الحرب العالمية الثانية ضد النازية والأنظمة الديكتاتورية – وهما: الاتحاد السوفييتي الشيوعي الداعم للمد الشيوعي في العالم، والولايات المتحدة الأمريكية الرأسمالية الساعية لإيقاف هذا المد.
وتجلى هذا التوجه نحو الثنائية في التقسيم الرباعي لألمانيا بعد تحريرها من النازية، حيث سيطر الاتحاد السوفييتي على القسم الشرقي، بينما اقتسمت الدول الرأسمالية (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا) القسم الغربي. كما قسمت برلين نفسها بنفس الطريقة.
ولا حاجة للتذكير بتداعيات هذه القطبية وارتداداتها، من المد الشيوعي السوفييتي في أوروبا الشرقية، ورد الفعل الأمريكي عبر مشروع مارشال، مروراً بالحرب الباردة الأولى (1947-1953)، ثم مرحلة التعايش السلمي (الستينيات-1979)، وصولاً للحرب الباردة الثانية (1975-1989). حيث ظلت “القطبية الثنائية” أو “النظام الدولي الجديد” مكرسة لجانب سوسيواقتصادي وتكنولوجي-سيبراني واسع، يحاكي طريقة تشكيل مجلس الأمن ومنظومته القائمة على قوة الدول العظمى وسيطرتها، باستخدام “الفيتو” كأداة لتحطيم أي بصيص أمل بين العوالم المختلفة.
لكن هذه السيرورة لا تحجب المتغيرات الجديدة التي برزت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وصعود قوى صناعية وعسكرية جديدة. حيث تشابكت أنظمتها الدولية مع مصالح الأقطاب التقليدية، لتصبح أدوات في صراعات القارات عبر الأيديولوجيا والمصالح الاقتصادية والتبعية الثقافية. فظهرت قطبية موازية متعددة الأوجه، وانبثق عن هذا التباين اصطدام ثقافي وطفرات في تشكيل “هويات” قائمة على القومية أو الوحدة الوطنية، كما الملل والنحل.
وكما لا يقبل العقل استدراج المذاهب السياسية وعلم الاجتماع السياسي لمفاهيم “القطبية” أو “المحاور” في سياقات اقتصادية وسياسية وعسكرية بحتة، فإن من مساوئ التفكير المنحرف لفلسفة الحق والأخلاق، انبراء منظري الحروب الجديدة ومشرعي القهر لضرب المفهوم الجوهري للقطبية نفسها، سعياً لاستعادة مجد الأقطاب الزائلة.
من علامات الانحراف الأخلاقي والمعرفي للفلاسفة الغربيين، بروز تيار ألكسندر دوغين الذي تنبأ بسقوط “القطب الواحد” بعد أحداث معينة، وتنبأ بعودة الصراع بين قطبيات متعددة.
فخلال الأزمة السورية، مارس دوغين لعبة التوازنات بين الانتقائية السياسية والمناورات. فبينما يزعم أن التعددية القطبية تكتسب قوةً مع تراجع الهيمنة الغربية، يتحول فجأةً لمناهض للأعمال العدائية الناتجة عن الحروب المدمرة.
ولا عجب، فالشوفينية السوفييتية في فكر دوغين تستيقظ لمواجهة صعود القطبيات الجديدة، وانهيار الخطوط الحمراء في المواجهات. وهذا ما يتجلى بوضوح في الصراع الأوكراني ودور الناتو فيه.
بل إن دوغين يكشف عن فشل روسيا الذريع في الحفاظ على توازناتها الاستراتيجية بسوريا، معبراً عن أسفه في حوار مع “سبوتنيك”: “من المحزن أن جهودنا تحولت إلى لا شيء في بضع أيام. علينا أن نتقبل الألم كجزء من واقعنا لنظل قادرين على التعاطف”.
والأدهى أن هذا “المثقف الوظيفي” يكشف عن حلمه الحقيقي بسلطة القوة، بعيداً عن أي وازع أخلاقي. فهو يرى الوجود الحتمي للقوة كمصير وحيد لتحديات ما بعد النظام العالمي الأحادي.
وفي محاضرة له بمؤتمر “اللايقين الدولي 2025” بمعهد موسكو للعلاقات الدولية (9 ديسمبر الجاري)، ذهب دوغين إلى أن تحديات الانتقال من الأحادية إلى التعددية القطبية لا تقتصر على الدول الكبرى (روسيا، الصين، الهند)، بل تشمل حضارات أخرى (إسلامية، أفريقية، لاتينية) لم تندمج بعد في النظام العالمي.
وتساءل: “هل نحن في عالم متعدد الأقطاب أم ما زلنا في الأحادية القطبية؟”، معتبراً أن “الحدود” بين هذه الحضارات تزيد تعقيداً لعملية التحول.
ما يلفت النظر في فكر دوغين هو تعمده إثارة الضبابية حول مفهوم “القطب”، بينما يطرح بدلاً منه مفهوم “الدولة-الحضارة” كأداة لتحليل الأبعاد السوسيولوجية للعلاقات الدولية.
في النهاية، يبقى دوغين فيلسوفاً بقطعيات سياسية، ينزاح نحو تدليل معاصر يناقض الاستعارة الأفلاطونية في “الجمهورية”، حيث الكهف المظلم (السياسة) يقابل النور (الفلسفة). فبينما تهدف السياسة لحفظ نظام المعتقدات والمؤسسات، تسعى الفلسفة لخلخلته بحثاً عن بدائل أفضل.
أليس من المفارقة أن ينحاز فيلسوف مثل دوغين لسلطة القوة بدلاً من نور الحكمة؟ هذه هي الخطيئة الكبرى للفكر المنحرف الذي يجترحه منبوذو العصر.