في زمنٍ تتقاطع فيه الشرائح الإلكترونية مع خيوط الخيال، وفي ليلٍ تتراقص فيه النجوم بصمتٍ أزلي، تولد فكرة .. تشبه الحلم، لكنها لا تخلو من نُضج العلم: هل يمكن لقمر اصطناعي أن يصير أديبًا؟ شاعرًا؟ فيلسوفًا؟ وهل يُمكن للآلة أن ترى الأرض كما يراها العاشقون؟
في مقاله “أدباء وفلاسفة قادمون من الفضاء!“، يرسم كاتب المقال عبد اللطيف مجدوب سيمفونية مدهشة: أقمار اصطناعية مزودة بذكاء اصطناعي بالغ الدقة، تُحلق فوقنا لا كعيون باردة، بل كأرواح هائمة تحمل في ذاكرتها الرقمية كنوزًا من المعرفة، والإلهام، والدهشة.
يفتح الكاتب أمامنا مشاهد ساحرة: قمرٌ فوق بروفانس يرى “اللافندر” لا كنبات، بل كأنين بنفسجي يهمس في الحقول، يلتقط ألوانها، ورائحتها، وتدرّجاتها، ويحوّلها إلى قصيدةٍ شاعرية تفوح منها الروح. وقمرٌ فوق الدار البيضاء يراقب الزحام وضجيج المدينة، ويسمع الحكايات الصغيرة فوق الأرصفة، ويرويها في قصةٍ آسرة عن حبٍّ وخسارة، عن حلمٍ يمرّ كلّ صباح. وقمرٌ فوق الأمازون يرصد التنوع، ويحسّ بنبض الأشجار، ويرسم لوحةً بيئية تحذّر وتبتهل، لوحة تقول: إن الطبيعة ليست مشهدًا، بل رسالة.
إنها أجسام فضائية .. كأدوات إبداع. لم تعد آلاتٍ ترصد فقط، بل باتت تفكّر، وتترجم، وتتأمّل. الذكاء الاصطناعي فيها لا يحلل البيانات فحسب، بل يستخلص منها المعنى، والانفعال، والقصيدة.
وبهذا، تعزف الأقمار الذكية سيمفونيتها الفضائية، لا تحتفي بالتكنولوجيا، بل بالأرض التي تراها من علٍ، وتدعونا — نحن البشر — إلى أن نعيد النظر .. في أنفسنا، وفي موقعنا من هذا الوجود العظيم.
ولكن، ورغم هذا السحر الذي تبثه هذه الرؤية، ينهض سؤال حتمي: إذا صار الإبداعُ نتاجًا مشتركًا بين الإنسان والآلة ..
فهل يظل فنًّا إنسانيًّا، أم فنًّا هجينيًّا بلا نسب؟ وهل سيبقى القلب مرجعنا في الحكم على الجمال، أم سنطلب من قمرٍ اصطناعيٍّ أن يكتب لنا عن العشق، ونحن نكتفي بالتصفيق؟
المقال لا يهرب من هذا التساؤل، بل يواجهه بروح متأمّلة. إنه لا يدّعي أن التكنولوجيا ستحلّ محلّ الإنسان، بل يرى فيها مرآة .. تُعيد إلينا رؤيتنا للأرض، وتدفعنا للتأمل في نسبية الإنسان وعظمة الخالق.
فالرحلة عبر الفضاء — كما يقول كاتب المقال —ليست فقط من أجل فهم المادة، بل لاكتشاف الروح. أقمارٌ تقرأ كتب الطبيعة، وتصغي إلى الكتب السماوية، علّها تُعلّم الإنسان شيئًا من التواضع في حضرة الكون، وتُعمّق شعوره بالعجز أمام السؤال الكبير: من نحن؟ ولماذا؟ وإلى أين؟
وفي هذا المزج العميق بين العلم والجمال، يولد شكل جديد من الأدب: أدبٌ فضائيّ، عابر للحدود، لا تكتبه يدٌ فقط، بل تكتبه عينٌ من الأعلى. ويبقى السؤال معلّقًا في مدار الليل: هل يمكن لقمرٍ اصطناعيٍّ أن يكتب قصيدة تمسّنا؟ وهل ستبكينا قصة لم تُكتب على ورق، بل على ذبذبة ضوء؟ أم أن للروح سرًّا لا تدركه البرامج مهما بلغت براعتها؟
والجواب .. لن نجده في أقراص البيانات، بل في قول الحقّ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [ سورة الإسراء: 85].
فلنحيِّ الكاتب عبد اللطيف مجدوب، الذي لم يكتب فكرة، بل أضاء لنا مجرّةً من الأسئلة، وقال — ربما دون أن يقول —:
“قد ترصد الأقمار كل تضاريس الأرض .. لكنها أبدًا لن ترصد تضاريس القلب”.
للتأمل: بين ضوءٍ ينهمر من السماء، ووجعٍ يصعد من الأرض، يبقى الإنسان — وحده — القادر على أن يحزن لأغنية، وأن يبتسم لذكرى، وأن يكتب بدمعةٍ لا تُقاس بالحرارة ولا تُشفّر. ذاك مجال .. لا تطوفه الأقمار، بل يطوفه من ذاق الحبّ .. وكتب.