في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتزداد الفجوات الاجتماعية، يقدم فيلم Shoplifters، للمخرج الياباني هيروكازو كوريدا، رحلة سينمائية صامتة عميقة تغوص في حياة عائلة يابانية على هامش المجتمع. ولا يحكي الفيلم قصة عادية عن الفقر أو الجريمة، بل يتجاوز ذلك ليكشف عن روابط إنسانية تشكلت في ظل هشاشة الظروف وانعدام الأمان، حيث تصبح الأسرة مفهومًا يتجاوز الروابط البيولوجية ليصبح فعل اختيار وحب ورغبة في البقاء معًا. في هذا السياق، يطرح الفيلم أسئلة جوهرية حول ماهية الأسرة والحب والقانون والعدالة في مجتمع معقد ومتغير.
كما يقول أوسامو، رب الأسرة في الفيلم: “أحيانًا لا تكون الأسرة تلك التي يولد فيها الإنسان، بل تلك التي يختارها”. وتلخص هذه العبارة جوهر الفيلم؛ إذ تتخطى روابط الدم والوراثة لتؤكد على أهمية الحنان والاختيار في بناء المعنى والهوية.
يقدم فيلم “سارقو المتاجر” أو “لصوص المتاجر” (2018/ المدة121) بذلك تأملًا رقيقًا في الإنسان المعاصر، في هشاشته وفي بحثه الدائم عن الانتماء والدفء وسط قسوة الحياة. وتتجلى قيمة هذا الفيلم الفنية في حصده مجموعة من الجوائز، من بينها السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي في نسخة 2018. والسؤال كيف قدم المخرج سينما الهامش في ثوب إنساني يلامس كل عشاق السينما في العالم؟
فيلم “سارقو المتاجر”: سينما الهامش
لا يحمل عنوان الفيلم معنى مجازيًا فقط، بل أيضًا وصفيا لسلوك الشخصيات: فهم يسرقون المواد الغذائية من المحالات التجارية، ولكن بدون أي شعور بالذنب أو الرغبة في التبرير. ولا تمثل السرقة هنا جريمة بالمعنى الأخلاقي، بل هي فعل بقاء، أو مقاومة صامتة لمنظومة اقتصادية تعجز عن احتوائهم. تقول نوبويو، زوجة أوسامو، في أحد الحوارات: “إذا كان الشيء على الرف ولم يكن أحد يستخدمه، فهو ليس ملكًا لأحد”. وينهار بهذه البساطة التصور القانوني للملكية، ويُعاد تأويله لصالح العدالة العاطفية. ولا يمثل فعل السرقة في فيلم “سارقو المتاجر” انحرافًا، بل تكيفًا. وهنا يُطرح سؤال فلسفي عميق: ما الذي يجعل الفعل أخلاقيًا؟ القانون؟ أم السياق؟ لا يقدّم الفيلم إجابة مباشرة، لكنه يترك المتفرج في منطقة رمادية أخلاقية تجبره على إعادة التفكير في معاييره الخاصة.
وفي عالم مادي يتآكل فيه الرابط الإنساني وتُقاس فيه القيم بمدى الإنتاجية والاستهلاك، يبرز فيلم “سارقو المتاجر”، للمخرج الياباني هيروكازو كوريدا، كحالة سينمائية فريدة تخرق التقاليد النمطية لسردية الأسرة، وتعيد تشكيل مفهوم “القرابة” بعيدًا عن المحددات البيولوجية والمؤسسات الاجتماعية. ينتمي الفيلم إلى سينما الواقعية الاجتماعية، ولكنه يتجاوز ذلك إلى سينما فلسفية تأملية تُحاكم النظام الاجتماعي بهدوء بارد وصمتٍ صاخب.
وينتمي فيلم Shoplifters إلى ما يمكن تسميته بـ”سينما الهامش”، تلك التي تتجه للحديث عن المنسيين والمقصيين والمقهورين من منظومة الإنتاج والاستهلاك. إن المخرج كوريدا لا يقدّم فيلمًا عن الفقر بالمعنى الميلودرامي، بل يقدّمه كمنظومة حياة موازية، كمساحة مقاومة، كأفقٍ هشّ تتخلله أسئلة وجودية عميقة. في هذا السياق، يمكن القول إن الفيلم يتحرك داخل إطار “السينما المضادة للمركز”، التي تُجسّد حياة المهمشين والمقصيين ضمن مجتمع رأسمالي استهلاكي لا يرحم، حيث العائلة ليست بالضرورة مؤسسة قانونية، بل عقداً عاطفياً متبادلاً.
وينطلق Shoplifters من سؤال بسيط شكليًا: ماذا يعني أن تكون جزءًا من عائلة؟ ولكن خلف هذا السؤال تكمن سلسلة من الإشكاليات الأخلاقية والفلسفية: هل العلاقة الأسرية تُبنى على الدم أم على الرغبة في العيش المشترك؟ وهل الأخلاق تتحدد بالقانون أم بالتعاطف؟ يقدّم الفيلم “أسرة” مكونة من مجموعة من الأفراد الذين لا تجمعهم روابط بيولوجية، لكنهم يعيشون معًا، يسرقون معًا، يعتنون ببعضهم البعض، ويتقاسمون الرغيف والبؤس والدفء. في لحظة دافئة، يقول أوسامو للطفلة يوري التي تم تبنيها عمليًا من الشارع: “أحيانًا، لا يمكن للوالدين اللذين أنجباك أن يكونا والديك الحقيقيين”.
يلخص هذا الاقتباس أطروحة الفيلم بأكمله، الذي يسائل الهياكل التقليدية ويقترح صياغة جديدة للأسرة، بوصفها اتفاقًا وجدانيًا يتجاوز القانون والوراثة.
سينما التأمل البطيء: من الأخلاق النفعية إلى الطاوية
لا يعتمد المخرج على الحبكة بقدر ما يعتمد على الزمن؛ فهناك مشاهد طويلة بصريًا، صامتة حواريًا، لكنها ثرية بالإيماء والسكوت والمجال. ويستلهم بذلك من تقاليد أوزو وميزوغوشي، حيث لا تحدث “الأحداث” بالمعنى الكلاسيكي، بل تتسرب عبر الإيقاع. ولا يبدو الزمن محايدًا في الفيلم، بل يُستخدم كوسيلة لإبراز هشاشة الوجود وسرعة التبدد. ويعمق الزمن في Shoplifters الإحساس بالتواطؤ الحميمي بين الشخصيات، ويخلق نوعًا من “السكينة القلقة”، إن جاز التعبير.
يتغذى الفيلم على خلفيات فكرية متعددة، ويمكن قراءة مواقف شخصياته ضمن منظور الفلسفة الأخلاقية النفعية، حيث يتم الحكم على الأفعال بناءً على نتائجها، لا على مبادئها. فأفعال السرقة والتبني غير القانوني تصبح “مقبولة” لأنها تُنتج حميمية وأمانًا للأطفال. في الآن ذاته، يمكن قراءة الفيلم من زاوية الطاوية أو المدرسة الزِن البوذية، حيث القبول بالتناقض وعدم إصدار أحكام مركزية في الوجود. ولا تطرح الشخصيات أسئلة وجودية بصوت عالٍ، لكنها تعيشها على مستوى الجسد، الحركة، الرغيف، اللمسة.
“سارقو المتاجر”: انهيار قيم التضامن الاجتماعي
يمكن اعتبار الفيلم نقدا اجتماعيا داخليا وبمثابة بيان ضد المجتمع الياباني ما بعد الصناعي، الذي يعيش أزمة هوية جماعية. الفردانية، الاغتراب، ارتفاع معدلات الفقر المقنّع، وانهيار مؤسسة الأسرة التقليدية كلها حاضرة هنا. ويفضّل المخرج كوريدا، عوض أن يصرّح بذلك، إظهار العائلة “الزائفة” كشكل من أشكال المقاومة الصامتة، حيث يتم اكتشاف أن أوسامو ليس الأب الحقيقي، وأن يوري ليست ابنته، تنهار العائلة أمام عين القانون، لكن المشاهد يعلم جيدًا أنها كانت أقرب إلى العائلة من كثير من الأسر الحقيقية.
وما يميز Shoplifters هو أنه لا يحاكم شخصياته، بل يدعو المتفرج إلى أن يحبهم كما هم، حتى وإن كانوا لصوصًا أو مخادعين. إنه فيلم عن هشاشة الإنسان، عن الرغبة الدائمة في الانتماء، حتى لو كان الثمن هو الكذب أو السرقة أو إخفاء الهوية. يقول أوسامو في نهاية الفيلم للولد شوتا: “أردت فقط أن أكون أبًا لك، حتى لو لم أكن جيدًا في ذلك”. وتختصر هذه الجملة، كل الدراما الإنسانية التي يطرحها الفيلم: الرغبة في أن يكون للمرء مكان، عائلة، معنى، حتى لو كان ذلك هشًّا ومصطنعًا. ويقترب الفيلم في هذه النقطة من وجودية سارتر، حيث الهوية تُبنى بالفعل والاختيار، لا بالميراث والانتماء.
ويعتبر الابنان يوري وشوتا هما محور الأسئلة الأخلاقية في الفيلم. وهما المرآة التي تعكس فشل النظام الرسمي في العناية بالأطفال، وتُظهر كيف أن الحنان لا يُقنن، بل يُعاش. تقول نوبويو ليوري: “أحيانًا لا يعرف الكبار كيف يحبون، نحن نحاول، فقط”.
لا يمنح الفيلم خلاصًا، لكنه يمنح لحظة صدق، لحظة ندرك فيها أن المهمشين ليسوا عالة على المجتمع، بل مرآة له، وأن الفقر ليس خطيئة، بل نتيجة، وأن العائلة ليست قالبًا، بل مشروعًا إنسانيًا مفتوحًا على الفشل والنجاح معًا.
لا يتحدث فيلم “سارقو المتاجر” عن الفقر أو عن السرقة، بل عن الإنسان حين يختار أن ينتمي رغم كل شيء. وعن الرغبة في الانتماء حتى ولو كان الثمن هو العيش خارج القانون، وعن الحنان كفعل مقاومة، وعن العائلة التي تُصنع لا التي تُورث. ويطرح الفيلم، بكل صمته، وكل دفئه، وكل كسره للقواعد، سؤالًا وجوديًا مؤلمًا: ما الذي يجعلنا نحب؟ ولماذا نظل رغم كل شيء نبحث عن بيت حتى وإن كان بيتًا من كذب وحنان مسروق؟ وهكذا تختصر نوبويو رسالة الفيلم، رسالة تهمس، لا تصرخ، لكنها تظل في القلب طويلًا: “لم ننجبك، لكن اخترنا أن نحبك”.
“سارقو المتاجر”: الطفولة كمرآة للإنسانية المجروحة
ينتمي فيلم “سارقو المتاجر” للمخرج هيروكازو كوريدا إلى تلك السينما التي لا تُروى فيها الحكاية بقدر ما تُعاش. وتقوم الهويّة السردية للفيلم على الهمس لا الجهر، على التلميح لا التصريح، على التجربة لا الحبكة. ولا يقودنا الفيلم عبر بنية تقليدية تقوم على تصاعد درامي وانفراج، بل يختار أن يُدْخِلنا في حياة متشظية، هشّة، يومية، مثل لقمة تتقاسمها الأسرة في صمت. ويبدأ الفيلم من دون مقدمة، كأننا نلج إلى حياة عائلة قبل أن يراها المخرج نفسه، ويستمر بالإيقاع نفسه حتى بعد أن تُكشف الحقائق. ولا تعطي هذه السردية اللاتمركزية الأفضلية لأي شخصية، بل تمنح كل فرد هامشًا من الحياة والتعبير. كما يعتمد الفيلم على سرد أفقي، لا يحكمه المركز بل الشبكة، لا يحكمه البطل بل الجماعة، لا يحكمه الصراع الخارجي بل القلق الداخلي.
لا يمثل خطاب الفيلم خطابًا صارخًا أو تعبويا، بل خطابا متواضعا يتشكل من لحظات الصمت، من النظرات، من الكلمات التي تُقال مرة وتُمحى مرات. ويخاطبنا المخرج كوريدا من موقع الشاهد، لا من موقع القاضي. ويقدّم لنا شخصيات تسرق، تكذب، تخفي، لكنها تحب، تعتني، وتبني دفئًا في وسط الخراب. يضع هذا الخطاب الأخلاقي غير المباشر المتفرج في قلب المعضلة: كيف تحكم على أسرة تكوّنت خارج القانون لكنها أكثر حنانًا من مؤسسة الأسرة القانونية؟ ما هو الصحيح؟ من يحق له أن يُحب؟ تقول نوبويو في أحد المشاهد وهي تحتضن الطفلة يوري بعد أن أنقذوها من عائلة مهملة: “إذا لم يكن والدك يعرف كيف يحبك، فذلك ليس خطأك”. لا تُدين هذه العبارة الموجعة الأب الحقيقي، لكنها تبرّئ الطفلة من ذنب لا تُدركه، إنه خطاب يحرّر الضحايا من شعورهم بالذنب، ويحرّر الحب من طغيانه البيولوجي.
على المستوى البصري، يشتغل المخرج كوريدا على اقتصاد بصري كبير: لقطات داخلية مكتظة، إضاءة خافتة، مساحات ضيقة، لكنها حافلة بالتفاصيل. وتحمل كل لقطة معنى. ولا تمثل النوافذ، الأبواب، الشرفات، فقط عناصر ديكور، بل حدودًا فاصلة بين الداخل (الحميمي، المتآلف) والخارج (البارد، القانوني، القاسي). وينظر الطفل شوتا في لحظة صامتة من نافذة الحافلة إلى أوسامو بعد أن تم تفريق العائلة حيث لا كلمات، لا صوت، لا نحيب، فقط نظرة، وكل شيء ينهار في الصمت.
يعتمد المخرج كوريدا في هذه البنية البصرية على تشكيلات مشهدية تتّسم بالتقشف المضيء. ولا توجد لقطات مبهرجة، بل تكوينات بصرية تلتقط هشاشة الشخصيات في أماكن ضيقة، مزدحمة، مليئة بالأشياء الصغيرة التي تعبّر عن العيش المُكثّف. البيت الصغير الذي تعيش فيه الأسرة هو شخصية بحد ذاته، كأنه يحتضنهم كما يحتضن بعضهم بعضًا. وتشكل النافذة المكسورة، المطبخ الذي بالكاد يتسع لشخصين، الفراش المشترك، عناصر حميمية تتسم بالجمال والحزن. وفي مشهد بالغ الدقة، تنظر الطفلة يوري من خلال الشباك إلى الألعاب في بيت الجيران، ثم تُبعد رأسها بهدوء، كأنها تعرف أن العالم هناك ليس لها، لا كلمات، فقط نظرة تكسر القلب. ويكون الضوء في الفيلم غالبًا خافتًا، منزليًا، طبيعيًا، يشيع إحساسًا بالحميمية والواقع. ولا يأتي الليل كعتمة بل كستار، كحضنٍ للعائلة المزيفة الصادقة.
لا تتأسس جمالية الفيلم على جمالية الجرح الظاهر بل على جمالية الكدمة الداخلية حيث لا مشاهد صادمة، لا دم، لا عنف صريح، لكن كل شيء مؤلم في العمق. ويأتي الألم من الطريقة التي ينكسر بها الصوت حين ينادي شوتا أباه بالتبني في لحظة التحقيق: “هل كنت ستتوقف عن مناداتي بابنك لو لم أنادك بأبي؟” هذا السؤال لا يحتاج إلى إجابة، لأنه يعرّي هشاشة الهوية، ويكشف أن الألقاب لا تصنع الرابط، بل الرغبة في الحب. ولا يعكس الجمال في فيلم Shoplifters جمالًا بصريًا فحسب، بل أخلاقيًا، حيث يمنح للحنان قيمة جمالية، والاحتضان مشهدًا من الفن، والسكوت مساحة مقاومة.
لا تمثل الشخصيات في الفيلم رموزًا بل بشرًا. ولا يعتبر أوسامو رب أسرة مثاليًا، بل رجلا يحاول. ولا تعتبر نوبويو أمًا مثالية، بل امرأة تبحث عن حضن. ولا يمثل شوتا طفلًا بريئًا بالمطلق، بل مراهقا يتعلّم أن يسائل. ولا تعكس شخصية يوري رمزًا للبراءة، بل كائنًا صغيرًا يحاول أن يفهم معنى أن يكون محبوبًا. تقول نوبويو لزوجها في أحد أكثر المشاهد صدقًا: “لقد اخترنا بعضنا البعض، أليس هذا كافيًا؟”، وهنا تكمن الفكرة المركزية في الفيلم: الانتماء فعل إرادي، الحب مشروع لا وراثي، والعائلة خيار هشّ لكنه ضروري.
تُعالج الشخصيات في الفيلم أسئلة تتجاوز حدود وضعها الاجتماعي: ما معنى أن تكون أبًا؟ هل الاحتضان فعل قانوني أم عاطفي؟ هل الفقر يلغي الكرامة؟ وهل القانون يعرف دائمًا من هو “الضحية” ومن هو “الجلاد”؟ ويُطرح من خلال كل شخصية سؤال وجودي عن القيمة والحنان والانتماء. ولا تملك شخصيات Shoplifters أجوبة، لكنها تجسّد الأسئلة، تعيشها، تتهجّاها عبر العيش المشترك والتواطؤ الصامت.
وتنبثق هذه الهوية بأبعادها المتعددة من صمت المخرج وحنان عدسته. ولا يُملي علينا ما نفكر به، بل ما يجعلنا نعيد التفكير فيما كنا نظنه بديهيًا: مفهوم العائلة، الحب، العدالة، الجريمة، القانون. ولا يُشاهد هذا الفيلم بل يُعاش، لا يُحكى بل يُشعر، لا يُنهي حكايته بل يتركها معلّقة في قلب المتفرج، كأنها سؤال لم يُطرح بعد.
“سارقو المتاجر”: هل يمكن للحنان أن يكون جريمة؟
لا يوجد بطل بالمفهوم الكلاسيكي في فيلم “سارقو المتاجر”، ولا تُبنى الحكاية حول مركز واحد يحمل عبء البطولة، بل تتوزع الأدوار وتتشظى الذوات في فسيفساء إنسانية كثيفة، حيث كل شخصية تحمل شيئًا من البطولة اليومية، بطولة العيش رغم القسوة، بطولة الحنان في عالم جاف، بطولة أن تمنح آخرين شيئًا من الدفء ولو كنت أنت بردانًا. لا يُراد للبطل هنا أن يخلص العالم أو يغيّره، بل أن ينجو من قسوته، أن يصمد، أن يحب، حتى وإن لم يكن الحب مؤطّرًا قانونيًا. وتتجسّد البطولة في هذا الفيلم، في التفاصيل الصغيرة، في إخفاء رغيف، في سرقة وجبة من السوبرماركت، في لمس شعر الطفلة يوري بعد أن تهرب من بيت يعاملها كشيء زائد، حين تقول نوبويو ليوري بهمس مشوب بالحنان: “أحيانًا لا يعرف الكبار كيف يحبون، لكنهم يظنون أنهم يفعلون”، فهي لا تبرر القسوة بل تكشف هشاشتها، وتمنح الطفلة حق الشعور بالأذى، وتغرس فيها بذرة الشك المشروع في مفهوم الطاعة والاحترام.
ولا تعتبر الشخصيات في الفيلم مجرد أدوات لتسيير القصة، بل عوالم مستقلة، تامة، مشروخة. فشخصية أوسامو، الرجل الذي يُفترض أنه رب الأسرة، ليس سوى عامل بسيط فقد القدرة على إعالة أسرته، لكنه يعوّض عجزه المادي بعطاء عاطفي غزير. وتكمن بطولته في محاولته أن يكون أبًا، رغم أن المجتمع والقانون لا يعترفان به كذلك. يقول في لحظة صادقة بعد أن يُكشف زيف العلاقة البيولوجية: “لا أحتاج إلى أن يكون ابني من دمي، فقط أردت أن أكون له أبًا”، وتكشف هذه العبارة عالماً من القيم المهملة، حيث لا يُقاس الانتماء بالجينات بل بالإرادة، ولا تُقاس العائلة بالأوراق بل بالرغبة في الاعتناء.
تعمل نوبويو في مغسل ملابس، وتحمل جراحًا لا تُرى، لكنها تُحسّ. وتعيش على هامش المدينة، وعلى هامش القانون، لكنها تقيم داخل قلب الطفلة التي أنقذتها من الإهمال. وحين تحتضن يوري وتُخفيها من أعين المجتمع، فهي لا تختطف بل تعيد تعريف الاحتواء. ولا تمثل نظرتها لليومي نظرة ضحية، بل نظرة مقاومة ناعمة، حيث تصنع من كل وجبة بسيطة احتفالًا، ومن كل لحظة دفء صغيرة معنى للبقاء. وتعكس بطولتها كامرأة في مواجهتها الصدامية مع السلطة، بل في إصرارها على الاستمرار، على أن تكون أمًا لطفلة لا تملك حتى اسمًا واضحًا.
أما الطفل شوتا، الذي تعلّم السرقة كما يتعلم آخرون الرياضيات، يكتشف أن البطولة ليست في أن تتبع ما يُطلب منك، بل أن ترفضه حين تنضج، وفي أحد أكثر المشاهد تعقيدًا، يرفض سرقة متجر بعدما يلاحظ أن الطفلة يوري تقلّده. ويحدث هنا الانفصال الرمزي عن أوسامو، حيث يقرر أن يكون مختلفًا، أن يختار. وحين يُسأل في التحقيق عن سبب محاولته الهرب، يقول ببساطة موجعة: “لأني لم أرد أن أتعلم الكذب بعد الآن”. تلخّص هذه الجملة الموجزة تحوّله من طفل يعيش وفق ما يُلقّن له، إلى ذات تحاول بناء أخلاقها الخاصة، رغم هشاشتها.
أما الطفلة يوري، التي لم تختر أن تولد في بيتٍ مهمل، تُجسد البراءة المجروحة. فهي لا تتحدث كثيرًا، لكنها ترسم ملامح عالمها من خلال الصمت، ومن خلال الالتصاق الجسدي بمن يحبها. وحين تُسأل عن اسمها، تصمت، ثم تختار اسمًا جديدًا، كأنها تحاول أن تُولد من جديد، أن تنقذ نفسها من ماضٍ لا تفهمه لكنه يوجعها. ولا تعتبر هذه الطفلة، ضحية ساذجة، بل شاهدة على فشل بنية كاملة، على أن القانون قد يُعيدها إلى الألم لا إلى الأمان.
ترى كل شخصية في الفيلم الحياة من زاوية ضيقة لكنها صادقة. ولا تسعى هذه الشخصيات إلى طموحات كبيرة أو خطط طويلة الأمد، بل ترى اليومي كمعركة، كاستمرارية رمادية يجب اختراقها بالحب أو الخداع أو الصبر. ولا أحد ينتظر النصر، بل يتقاسمون الخسارة بشيء من الدفء. ولا تتطلب البطولة هنا انتصارًا، بل فقط التماسك. ولا يرغب أبطال هذا الفيلم بأردية لامعة ولا يمتلكون أجوبة جاهزة، لكنهم يطرحون السؤال الأكبر: هل يمكن للحنان أن يكون جريمة؟ هل الحب الذي لا تعترف به الدولة أقل صدقًا من ذاك الذي يباركه القانون؟
تُبنى عوالم هذه الشخصيات على الهشاشة، على علاقات تتشكل خارج منطق العقد الاجتماعي الرسمي، لكنها متينة بما يكفي لتترك أثرًا يصعب نسيانه. ولا يمثل البيت الذي يجمعهم مسكنًا بل مأوى للمعنى. فيه يُعاد تشكيل الحياة: وجبة مشتركة، لعبة ورقية، همسة قبل النوم. كما يصنعون أسرة مؤقتة لكنها حقيقية، مثل حلم جميل تعرف أنه سينتهي لكنك تتمنى أن يدوم لحظة أطول.
لا يمنحنا الفيلم بطلًا تقليديًا نقف إلى جانبه في النصر أو الهزيمة، بل يمنحنا فسيفساء من البشر المجروحين الذين يتعلمون كيف يحبون في عالم لا يرحم. وتكمن البطولة في الفيلم في استمرار العطاء، حتى حين يُدان عطاؤك. وأن تمنح آخر فرصة للبقاء، حتى وأنت غير مرئي. وأن تختار الانتماء، حتى حين لا يعترف بك أحد. وتهمس كل شخصية في الفيلم لنا بأن البطولة ليست في الصراخ بل في الحنان، لا في التغيير بل في التعاطف، لا في البقاء بل في المحاولة المستمرة أن تكون مع أحد، ولو للحظة.
الأبعاد في “سارقو المتاجر”: سينما الهشاشات الطبقية والتفكك الاجتماعي
لا يكتفي فيلم “سارقو المتاجر” بعرض قصة عائلة تعيش على هامش القانون، بل تنكشف عبر الحكاية طبقات عميقة من الأبعاد المتعددة، في بناء سردي صامت وصادم في آن واحد. ولا يقدّم الفيلم إجابات مباشرة بل يزرع أسئلة متشظية تنبثق من واقع ياباني مُعولم، يزهو بالتنمية ويخفي هشاشات طبقية وتفككًا اجتماعيًا يتسلل بين الأبنية الزجاجية وسطور الصحف الصامتة. وتعيش هذه العائلة الصغيرة في بيت مكتظ وتتقاسم المكرونة والسرقة والحنان، وهي ليست فقط كيانًا هامشيًا، بل استعارة لطبقة كاملة تمّ إقصاؤها من سردية الرأسمالية المعاصرة. إنهم اللازمون للمنظومة لكن دون أن تُعترف بهم.
ويتجلّى البعد الاجتماعي في الفيلم في تفكيكه لوهم الأسرة التقليدية. ولا تمثل العائلة هنا مؤسسة نواتية تقوم على رابطة الدم، بل نسيجًا من العاطفة المشتركة والاحتياجات المتبادلة، حين يقول أوسامو للطفل شوتا: “الأهل لا يُختارون، لكن العائلة نختارها”، فهو يقلب المعادلة الكلاسيكية التي تفرض على الفرد أن يقبل من أنجبه كقَدَر. وتعيد الشخصيات في الفيلم بناء روابطها بناءً على العناية لا على الوراثة، وعلى الحنان لا على الاسم. ويظهر في هذا السياق، المجتمع الياباني كيانًا هشًا يتخلى عن أضعف أفراده، لا يراهم إلا حين يخرقون القانون، ولا يتعامل معهم إلا كمجرمين لا كضحايا لنظام اجتماعي يُقصي ويعاقب في الوقت ذاته.
يتسلل البعد السياسي في الفيلم، دون صراخ أو شعارات، عبر أسئلة دقيقة موجهة للمؤسسات، للدولة، للقانون، للعدالة. وحين يُكشف في نهاية الفيلم أن الأسرة لم تكن حقيقية من وجهة نظر القانون، يُفرّق الجميع، وتُعاد الطفلة يوري إلى بيت والديها البيولوجيين الذين كانوا يُهملونها ويؤذونها، لمجرد أنهم “أهلها الحقيقيون”. ولا يرى القانون الحنان، ولا يسمع الصمت، إنه يحكم بالورق لا بالنبض. وتظهر في هذا القرار المؤسسة السياسية كنظام صلد يقدّس الشكل ويغفل الجوهر، حيث يقول شوتا في التحقيق: “هل أنتما تسألانني لأنني كنت أحبهم؟ أم لأنني لم أكن ابنهم؟”، ليكشف بوضوح عن فجوة الدولة بين فهمها للحب وتعاملها مع الشرعية. وتظهر هنا السياسة بوجهها الأكثر جمودًا، لا كأداة توازن بل كآلة تفكيك.
ويحضر البعد الاقتصادي في الفيلم كظل ضيف ثقيل. لا تسرق العائلة لأن السرقة مغامرة، بل لأنها ضرورة. العمل غير كافٍ، والدخل معدوم، والمأوى مهدد، وتصبح الحياة اليومية معركة للبقاء. وتعمل نوبويو في مغسل ملابس. عملٌ منهك لا يمنح كرامة ولا استقرارا. وأوسامو مصاب وعاطل. تقول نوبويو في أحد المشاهد: “إذا كانوا لا يدفعون لنا ما يكفي لنعيش، أليس من العدل أن نأخذ ما نحتاجه؟”، يكشف هذا السؤال عمق المفارقة بين المنظومة الاقتصادية التي تشرعن الفقر وتُجرّم النجاة وبين اقتصاد لا يرحم، وعمل لا يضمن الكرامة، وتصبح السرقة الخيار الوحيد لعائلة تريد فقط أن تأكل وتضحك وتحيى مثل الآخرين.
وينقضّ البعد الأيديولوجي في الفيلم على القيم السائدة من الداخل. ويُفكك الفيلم مفاهيم مثل الأسرة، الشرف، الأخلاق، العدالة، ليعيد بناءها من موقع مختلف، أكثر هشاشة وإنسانية. ولا يتحدث كوريدا من موقع اليسار الثوري أو من يمين محافظ، بل من موقع عميق يتساءل عن منطق الأشياء. وحين تحتضن نوبويو الطفلة يوري وتمنحها اسمًا جديدًا، لا تفعل ذلك بوعي إيديولوجي، لكنها تمارس في ذاتها فعلاً يخرق الايديولوجيا الرسمية التي ترى في الأطفال ممتلكات أسرية لا ذواتًا تبحث عن الحنان. وتتكوّن الايديولوجيا البديلة هنا من الحميميات اليومية، من اختيار الآخر، من بناء عائلة ضد الأنساق وضد السائد، حيث يقول أوسامو بعد أن يفترق الجميع: “ربما لم نكن عائلة حقيقية، لكننا كنا نحاول، وهذا أهم”، وتلغي هذه العبارة المعيارية وتفتح الباب لفكرة أن الهامشيين/المهمشين قد يكونون أكثر أخلاقًا من المؤهلين رسميًا لتربية الأطفال أو التمتع بالحب.
ويغمر البعد النفسي الفيلم كتيار خفي، حيث تعاني الشخصيات كلها من فَقْدٍ ما، من جرح داخلي لم يلتئم. وتحاول كل شخصية ترميم نفسها بالآخر، أن تكون مع أحد لتنسى الوحدة، أو لتصنع وهم الانتماء. ويعيش شوتا قلقًا مزدوجًا، بين رغبته في الانتماء لهذه الأسرة وبين إحساسه بأن السرقة لا تناسب روحه. وتخاف يوري من الأصوات العالية وتفضل الصمت، كأنها تحمل في جسدها ذاكرة عنف لم تفهم بعد. وتُخفي نوبويو حزنًا مكتومًا، وتفرّ إلى الحنان كملاذ، وحين تُسأل في التحقيق عن سبب تبني الطفلة، تقول: “ربما لأنني لم أستطع أن أكون أمًا لأحد من قبل”. وهذا الجواب ليس اعترافًا فقط، بل تشخيصًا دقيقًا للجوع/النقص العاطفي الذي يعانيه الجميع، جوع لا يشبعه المال ولا القانون.
ولا ينفصل البعد الرمزي للفيلم عن بقية الأبعاد، بل يشكّلها جميعًا من خلال لغة بصرية وإيمائية دقيقة. فالبيت الذي يسكنه الجميع ليس فقط مسكنًا عشوائيًا، بل رمز للعالم الذي يبنونه خارج المنظومة. والشرفة التي يطلون منها على الألعاب، والباب الذي يُقفل عليهم، والطعام الذي يتقاسمونه، كلها رموز لعالم صغير يحاول أن يكون ممكنًا. وتمثل الطفلة يوري الجيل الجديد الذي يُعاد تدويره في الدائرة نفسها إذا لم يُكسر النظام، حيث تنظر في النهاية من نافذة الحافلة إلى أوسامو، لا تقول شيئًا، لكن نظرتها تحتوي على كل المعاني، ربما تقول: كنت أحبك، رغم كل شيء. وربما تقول: لن أعود إلى هناك. وهذه الرمزية الصامتة تجعل الفيلم عملًا فلسفيًا أكثر منه دراميًا، عملاً يحفر في أعماق الإنسان لا ليجد الجرح فقط، بل ليقول إن الجرح أيضًا قد يكون بيتًا.
لا يتحدث الفيلم عن الفقر، بل عن الكرامة، وليس عن الجريمة، بل عن الحاجة، وليس عن الأسرة، بل عن الانتماء. إنه تأمل بصري ناعم في قسوة العالم الحديث، وفي هشاشة الإنسان حين يحاول أن يحب وسط نظام لا يعترف إلا بما هو قانوني ومؤسساتي. وهو شهادة على أن الإنسان لا يُقاس بأفعاله فقط، بل برغبته في ألا يكون وحيدًا.
لا يقتصر المخرج في الفيلم على الحكاية وعلى إجابة واحدة، بل يتركها مشرعة على فراغ مؤلم وأسئلة ثقيلة تنخر في القلب والعقل. ما الذي يجعل الإنسان جديرًا بالحب؟ هل يُقاس الانتماء بالدم أم بالرغبة في الرعاية؟ ما القانون الذي يُنهي عائلة لمجرد أنها وُلدت من الحنان لا من النسب؟
ويعالج الفيلم إشكاليات الفقر المقنّع، وتفكك الأسرة، وفشل المؤسسات في حماية الأضعف، ويضع النظام الأخلاقي السائد موضع مساءلة عبر شخصيات تعيش خارج النص الرسمي لكنها تقترح أخلاقًا بديلة أكثر رهافة وإنسانية. حين يقول شوتا في نهاية التحقيق: “لم أنادِه أبي حتى لا يتوقف عن مناداتي بابنه”، فإننا نسمع صوتًا يمزق القانون بالصمت، ويصرخ بحنين لا يعترف به أحد. ويلخّص هذا الاقتباس التمزق الداخلي بين الرغبة في الاعتراف والخوف من الفقد، بين الحب غير المشروع والفراغ المؤسسي. ولا يعبر الفيلم فقط عن أسرة خارجة عن القانون، بل عن قانون لا يتسع للحب وللحنان.