في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها ملف الصحراء المغربية، شهد خطاب جبهة “البوليساريو” الانفصالية تحولا واضحا في السنوات الأخيرة، إذ لم يعد يقتصر على المواجهة المباشرة مع المغرب فقط؛ بل توسع ليشمل استهداف كل شركاء الرباط الذين يدعمون سيادتها على أقاليمها الجنوبية؛ ما يعكس إدراكا متناميا ووعيا عميقا لدى قيادات هذا التنظيم بأن المعركة الحقيقية لحسم هذا النزاع باتت تدور اليوم في فضاءات النفوذ الدولي وأن المستقبل السياسي لقضية الصحراء مرهون بمدى القدرة على التأثير في أجندات الدول الكبرى، وهو المسار الذي قطع فيه المغرب خطوات مهمة.
ولا تخلو التصريحات والخرجات الأخيرة لعدد من قيادات “البوليساريو” من ربط مباشر بين الإنجازات التي حققها المغرب في ملف الصحراء وبين الدعم القوي الذي يلقاه من مجموعة من الدول المؤثرة في القرار الدولي، والتي تتهمها الجبهة الانفصالية بالانحياز وتصف مواقفها بـ”التآمرية”، على رأسها إسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الخليج الحليفة للمغرب، في محاولة لإعادة رسم ملامح الصراع عبر تبني خطاب المظلومية لتبرير عجز الجبهة وفشلها الداخلي في تحقيق أي تقدم ملموس منذ إعلان تنصلها من وقف إطلاق النار، وتصوير نفسها كضحية تُحاصرها قوى كبرى تتآمر عليها.
مأزق سياسي وحركة هامشية
محمد عطيف، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، قال إن “الخطاب الذي تبنته البوليساريو في السنوات الأخيرة يفتقر إلى أي مضمون استراتيجي متماسك، ويكشف عن مأزق سياسي وفكري يجعلها أسيرة خطاب تعبوي مكرر فَقَدَ صلاحيته أمام التحولات الإقليمية والدولية، فبدلا من تطوير رؤية واقعية منسجمة مع قرارات مجلس الأمن، اختار الكيان الزائف الهروب إلى الأمام عبر استعداء شركاء المغرب الاستراتيجيين؛ وهو نهج لا يحصد سوى مزيد من العزلة والانكماش”.
وأضاف عطيف، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “محاولة ربط نزاع الصحراء المغربية بصراعات القوى الكبرى ليست إلا غطاء لفراغ المشروع الانفصالي وعجزه عن تقديم بديل عملي، في وقت يطرح فيه المغرب مبادرة الحكم الذاتي المدعومة دوليا كحل وحيد جاد. وأكيد أن هذا الإصرار على استدعاء قاموس الحرب الباردة لا يضيف للجبهة سوى صورة كيان متجاوز زمنيا وفاقد للمصداقية”.
من جهة أخرى، أكد الأستاذ الجامعي ذاته أن “تدهور الأوضاع المعيشية في مخيمات تندوف وتآكل شرعية القيادة يعكسان فشل الجبهة في إدارة حتى محيطها الداخلي، فضلا عن عجزها عن التأثير في الساحة الدولية. فالبحث الدائم عن “أعداء جدد” لا يعكس قوة المبادرة بل يكشف فراغها السياسي، ويضع “البوليساريو” في خانة الفاعل السلبي الذي يستهلك الخطاب بدل أن يصنعه”.
وخلص المتحدث عينه إلى أن “هذا المسار يرسخ صورة “البوليساريو” كحركة هامشية ترفض الحلول الواقعية؛ في حين يواصل المغرب ترسيخ سيادته على أقاليمه الجنوبية عبر سياسة خارجية متوازنة وتحالفات استراتيجية فاعلة، مُثبتا وقائع دبلوماسية وميدانية تجعل أي خطاب انفصالي مجرد صدى باهت لمرحلة انتهت”.
مناورة سياسية وخسارة دبلوماسية
من جانبه، سجل جواد القسمي، باحث في الشؤون السياسية الدولية، أن “التحول في خطاب “البوليساريو”، والانتقال من التركيز على المغرب كطرف مباشر في النزاع إلى توسيع دائرة “العدو” واستهداف شركاء المغرب كفرنسا وأمريكا وإسبانيا، يعد مناورة من طرف “البوليساريو” تعكس أزمة عميقة تعيشها الجبهة، وهي تهدف من خلال نقل الأزمة من نزاع إقليمي إلى قضية عالمية إلى تحقيق غايات متداخلة؛ منها جذب الانتباه حول القضية بعد سنوات من الجمود وتراجع كبير وواضح للاهتمام الدولي بالقضية”.
وذكر القسمي، في حديث مع هسبريس، أن “الجبهة الانفصالية، ومن خلال جعل مسألة دعم المغرب مكلفة من الناحية السياسية والدبلوماسية لشركائه، هي مجرد محاولة لخلق ضغط داخلي على هذه الدول يدفعها إلى مراجعة تلك المواقف الداعمة للمغرب أو على الأقل اتخاذ مواقف محايدة. كما تحاول أيضا جعل القضية كجزء من صراع عالمي أكبر بين “قوى الهيمنة الغربية” وبين “الشعوب المضطهدة”، في محاولة لكسب تعاطف قوى صاعدة تناهض الغرب”.
وأكد الباحث في الشؤون السياسية الدولية أن “البوليساريو”، ومن خلال تبني هذا الخطاب، “تؤكد أنها تعاني فشلا ذريعا في بلورة مشروع سياسي واقعي، وتحاول تعويضه بخطاب عاطفي، فبعد عقود لم تعد فكرة “الاستفتاء” خيارا واقعيا في نظر الكثير من الفاعلين الدوليين، الذين أصبحوا يميلون إلى خطاب واقعي قابل للتطبيق يتمثل في مخطط الحكم الذاتي”.
وسجل القسمي أن “هذا الخطاب الذي تتبناه الجبهة له دور في التعبئة الداخلية للمخيمات؛ وبالتالي محاولة صرف الانتباه عن الأوضاع المعيشية الصعبة التي تعاش داخل المخيمات، في غياب تام لأي أفق لحل هذه القضية”.
وشدد المتحدث ذاته على أن “هذا التوجه ما هو إلا انعكاس لحالة الضعف والأزمة العميقة التي وُضعت فيها جبهة البوليساريو وتعاني منه القيادة؛ وهو دليل على تآكل الخيارات الدبلوماسية، حيث إن استهداف شركاء المغرب هو اعتراف ضمني بأن القنوات الدبلوماسية التقليدية لم تعد تؤتي أكلها، وأن الجبهة فقدت الكثير ممن كان يدعمها، فهي كمن لم يعد له ما يخسره على الساحة الدبلوماسية. كما لا ننسى أن الأمر قد يكون بتأثير مباشر من الجزائر والتي قد ترى في تصعيد اللهجة ضد شركاء المغرب وسيلة لممارسة الضغط في ملفات أخرى”.