هل يمكن أن يختفي “البيتكوين” حقًّا؟ لا بمعنى أن ينهار سعره مؤقتًا كما اعتدنا في دورات صعوده وهبوطه الحادة، بل أن تتبخر قيمته إلى الصفر ويغادر المشهد المالي العالمي تمامًا؟
هذا السؤال يفرض نفسه اليوم بقوة، بعد خمسة عشر عامًا على انطلاقه من فكرةٍ غامضةٍ دوّنها “ساتوشي ناكاموتو” في “ورقة بيضاء” عام 2008، في خضم أزمةٍ ماليةٍ عالمية، ليصبح أحد أكبر الأصول في التاريخ المعاصر، بقيمةٍ سوقيةٍ تجاوزت اليوم 2 تريليون دولار، وبزخمٍ تبناه من “وول ستريت” إلى الأسواق الشعبية في أفريقيا وآسيا.
لكن وراء هذه المسيرة المذهلة، تترصد أربعة تهديداتٍ كبرى متشابكةٍ وقادرةٍ على تغيير مصيره بالكامل. التهديد الأول تقني، مصدره الحوسبة الكمية التي قد تتمكن خلال أقل من عقدٍ من كسر الخوارزميات التي تحمي مفاتيح المحافظ الرقمية وإعادة كتابة تاريخ المعاملات، وهو ما قد يطيح بمفهوم الأمان اللامركزي الذي تقوم عليه فكرة “البيتكوين”.
التهديد الثاني تنظيمي وسيادي، حيث تحظر الصين التعدين والتداول نهائيًّا، وتتحرك دولٌ أخرى نحو إطلاق عملاتها الرقمية السيادية لتنافسه وربما تهمشه. أما التهديد البيئي، فيكمن في استهلاك طاقةٍ يعادل استهلاك دولٍ صناعية، مع اعتمادٍ كبيرٍ على الفحم والنفط، ما يجعله عرضةً لهجمات السياسات العالمية الطامحة إلى الحياد الكربوني.
ويبقى التهديد الرابع والأكثر حساسيةً في فقدان الثقة، حيث تسيطر “الحيتان” على النسبة الأكبر من “البيتكوين”، ما يفتح الباب أمام التلاعب والمضاربة العنيفة في سوقٍ يفتقر إلى الرقابة الصارمة.
في قلب هذا المشهد، تتباين مواقف الشخصيات المؤثرة. مايكل سايلور، رجل الأعمال الملياردير والرئيس التنفيذي لشركة “مايكروستراتيجي”، يصف البيتكوين بأنه “ملاذ استراتيجي” ضد التضخم، ويؤكد أن خصائصه الفريدة مثل الحد الأقصى للإصدار واللامركزية والتحقق المفتوح تمنحه صلابةً نادرة. ويرى أن التهديدات التقنية، بما في ذلك الحوسبة الكمية، يمكن احتواؤها بتحديثات بروتوكول شبيهةٍ بتلك التي حمت الإنترنت من تهديداتٍ أمنيةٍ سابقة.
سيف الدين عموص، الأكاديمي والاقتصادي المعروف بكتابه “معيار البيتكوين”، يعتبره معيارًا نقديًّا جديدًا شبيهًا بالذهب ولكن في صيغةٍ رقميةٍ آنية، ويرى أن الأزمات لا تعني انهياره، بل تمثل اختباراتٍ حاسمةً لقدرته على التكيف والبقاء.
على الضفة الأخرى، يصر وارن بافيت، أسطورة الاستثمار، على وصفه بأنه “أصلٌ بلا قيمة” و”سم فئران مضروب بالقوة”، رافضًا شراءه حتى لو كان بلا مقابل، لغياب أي تدفقات نقدية تبرر قيمته. أما بيل غيتس، مؤسس “مايكروسوفت”، فيحذر من أثره البيئي السلبي واحتمال استخدامه في أنشطةٍ غير مشروعة، معتبرًا أن من الصعب الترويج له كابتكارٍ إيجابي في ظل هذه المعطيات.
وفي المقابل، يتخذ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب موقفًا داعمًا غير مسبوق، إذ وقّع أمرًا تنفيذيًّا تاريخيًّا يفتح سوق التقاعد الأمريكي البالغ 9 تريليونات دولار أمام الأصول الرقمية، بما فيها “البيتكوين”، في خطوةٍ قد تضخ ملياراتٍ من الاستثمارات المؤسسية وتمنحه دفعةً هائلةً نحو قلب النظام المالي العالمي، بعد أن كان في بداياته من أبرز معارضيه وواصفًا إياه بـ”الاحتيال”.
إن احتمال اختفاء “البيتكوين” لا يزال رهن تفاعل هذه العوامل معًا: إذا اجتمعت ثغرةٌ أمنيةٌ كبرى بفعل الحوسبة الكمية مع تشديدٍ عالمي للحظر، وتراجع ثقة المستثمرين، وضغطٍ بيئي خانق، قد ينتهي المشهد بسقوط الذهب الرقمي من عليائه إلى الصفر.
لكن إذا نجح المجتمع الذي يقف خلفه في تحديث بنيته لمواجهة التهديدات، وتأمين قبولٍ تنظيمي واسع، وحل أزمته البيئية، فقد يرسخ “البيتكوين” – الذي وصل سعره اليوم إلى أزيد من 118 ألف دولار – مكانته كأصلٍ استراتيجي للقرن الحادي والعشرين، ويكتب فصلاً جديدًا في تاريخ المال العالمي.