في خطابه الأخير بمناسبة عيد العرش، جدّد الملك محمد السادس التزامه بخيار الانفتاح الإقليمي والتكامل التنموي، مؤكدًا نهج اليد الممدودة تجاه الجارة الجزائر، ومبرزًا أولويات التنمية الاقتصادية والاندماج في المحيط المتوسطي والأفريقي. خطابٌ اعتبره الإعلامي والكاتب السياسي اللبناني نديم قطيش تعبيرًا دالًّا عن صعود نمط جديد من التفكير السياسي في العالم العربي، يركّز على الأداء والمصلحة بدلًا من الاصطفافات الأيديولوجية.
وفي مقال نُشر في جريدة “الشرق الأوسط”، يرى قطيش أن الخطاب الملكي المغربي يُجسّد توجّهًا إقليميًا متصاعدًا يُعيد تعريف السياسة كأداة لحسن الإدارة وتحقيق المنفعة المشتركة، بدلًا من كونها ساحة لتنازع الهويات أو الترويج لمشروعات كبرى غير واقعية. وأوضح أن هذا التوجّه بات ملموسًا في عدد من العواصم العربية، حيث تتم إعادة ترتيب الأولويات نحو الداخل، وتقديم الاستقرار والتقدم الاقتصادي على الخطاب الشعاراتي أو الانخراط في صراعات عبثية.
وربط الكاتب هذا التوجّه المغربي بمبادرات مماثلة عرفها العالم العربي، مؤخرًا، مثل “مصالحة العلا” التي أنهت الأزمة الخليجية سنة 2021، والاتفاق السعودي- الإيراني برعاية صينية سنة 2023، حيث تصب جميعها في خانة منطق التهدئة، والبحث عن أرضية تعاون إقليمي بدلًا من التصعيد والمواجهة. وأشار إلى أن المغرب، رغم بعض الحساسيات السيادية مع جيرانه مثل إسبانيا، يواصل تطوير شراكات استراتيجية منفتحة، من أبرزها استعداده لتنظيم “كأس العالم 2030” بشراكة مع إسبانيا والبرتغال، وهو ما يؤشر على تغليب المصلحة الإقليمية على الاعتبارات السياسية المحدودة.
ويرى الإعلامي اللبناني أن تركيز خطاب العرش على البنية التحتية والطاقة المتجددة والتنمية المستدامة يعكس انسجامًا مع تيار عربي جديد يُعيد تعريف الشرعية السياسية انطلاقًا من الإنجاز والأداء، وليس من خلال الخطابات الأيديولوجية أو الوعود الكبرى. كما لفت إلى أن هذا المسار يُحقق تزايدًا في ثقة المواطنين، خصوصًا بعد عقدين من التجارب المُخيّبة، من الحرب الأمريكية على الإرهاب ومحاولات فرض الدمقرطة بالقوة، إلى تداعيات “الربيع العربي” وما خلّفه من انهيارات في بنى الدول الوطنية.
ووفقًا لقطيش، فإن هذه “العقلانية السياسية” الجديدة لم تقتصر على الشأن الداخلي، بل تجاوزته نحو إعادة صياغة أدوار إقليمية بنهج متزن، بعيد عن المغامرات. وذكر أن دولاً مثل السعودية والإمارات وقطر والمغرب باتت تلعب أدوار وساطة فعالة في أزمات دولية شائكة، منها الحرب في أوكرانيا، والنزاع بين أرمينيا وأذربيجان، إضافة إلى تموضع محسوب في سياق الصراع الأمريكي- الصيني. واعتبر أن هذا التحول يمثل انتقالًا من الاصطفاف إلى الوساطة، ومن الشعارات إلى الفعالية الواقعية.
وفي سياق التوترات التي أعقبت هجوم 7 أكتوبر 2023 وما نتجت عنه من مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، نوّه قطيش بتحرك عدد من العواصم العربية لاحتواء التصعيد، مستفيدة من علاقاتها المتوازنة مع أطراف النزاع. كما أبرز أهمية المبادرة السعودية لتنظيم مؤتمر دولي بالأمم المتحدة لإحياء حل الدولتين، بوصفها محاولة لإعادة القضية الفلسطينية إلى مسار تسوية عقلانية بعيدة عن المزايدات السياسية.
وعن المرتكزات التي يستند إليها هذا التيار السياسي الجديد، أشار الإعلامي اللبناني إلى ثلاث آليات واضحة: مشروعات ملموسة في ميادين البنية التحتية والطاقة والسياحة، وانفتاح دبلوماسي مرن يفضل احتواء التوترات بدلًا من تأجيجها، وخطاب رسمي متزن يبتعد عن اللغة الأيديولوجية ويُركّز على النتائج.
وفي الجانب الاجتماعي، لاحظ قطيش تغيرًا في أولويات المجتمعات العربية، خاصة فئة الشباب، الذين باتوا أقل اهتمامًا بالصراعات الهوياتية، وأكثر تركيزًا على الخدمات والفرص الاقتصادية وحسن الإدارة. كما أن فشل المشاريع الراديكالية، سواء ذات الخلفية الدينية أو القومية، ساهم في تراجع جاذبيتها حتى داخل قواعدها التقليدية.
وختم الكاتب السياسي اللبناني مقاله بالتأكيد على أهمية تسليط الضوء على خطابات من قبيل خطاب العرش المغربي، الذي لا يقتصر على مخاطبة الداخل فحسب، بل يوجّه رسالة عقلانية إلى محيط عربي يبحث عن أفق “ما بعد الصراع”، دون إنكار القضايا التاريخية، بل بالسعي إلى إدارتها بمنهج واقعي، متوازن وبراغماتي.