في تاريخ المغرب، يبرز اسمان لامعان يمثلان لحظتين سياديتين فريدتين: السلطان أحمد المنصور الذهبي (1578–1603) والملك محمد السادس (1999–الآن). وبينما يفصل بين الرجلين أكثر من أربعة قرون، فإن المقارنة بينهما تكشف عن تطور فن الحكم من منطق الدولة الإمبراطورية إلى منطق الدولة الحديثة ذات الشرعية الدستورية، لكن دون أن تفقد السلطنة المغربية طابعها التاريخي العريق.
الشرعية وأدوات الحكم
أحمد المنصور الذهبي استند إلى الشرعية الدينية والنسب النبوي لتثبيت سلطته، خاصة في ظل صراعات إقليمية حادة وتهديدات خارجية متعددة. استخدم الرموز الدينية وألقاب الخلفاء كوسائل لفرض الهيبة، وكرس صورة الحاكم باعتباره خليفة في الأرض. أما الملك محمد السادس، فقد ورث شرعية تاريخية وسلالية تمتد إلى أكثر من 12 قرناً، لكنه عمل على تعزيزها بشرعية دستورية وإصلاحية، حيث أطلق منذ اعتلائه العرش مساراً إصلاحياً مهماً توّج بدستور 2011، الذي أقرّ بدولة الحق والقانون، وكرّس مبدأ الملكية التنفيذية في إطار برلماني تعددي.
كما استغل المنصور الذهبي الدين كأداة للشرعية الإمبراطورية، مستحضراً صورة الخليفة والقائد الملهم. وكان الدين إطاراً سلطوياً، لكنه أيضاً مجدّد في سياق التصدي للهيمنة العثمانية.
أما الملك محمد السادس، فقد قدّم نفسه كـأمير للمؤمنين في إطار ديني وسطي ومنفتح، حيث طوّر مؤسسة إمارة المؤمنين لتكون ضامناً للوحدة والاعتدال، لا مجرد أداة سياسية. عمل على تحديث الحقل الديني، محاربة التطرف، وتصدير النموذج المغربي إلى إفريقيا.
فن الحكم بين السلطان المنصور الذهبي والملك محمد السادس
إن فن الحكم لدى المنصور الذهبي كان قائماً على الهيبة والقوة العسكرية، مدعوماً بجهاز بيروقراطي متمرس وجيش نظامي يُستخدم للردع الداخلي والتوسع الخارجي، كما في حملته الشهيرة على السودان. قوته كانت ترتكز على الذهب، الجيش، والتحالفات الدولية. في المقابل، يعتمد الملك محمد السادس على أدوات ناعمة ومرنة: الدبلوماسية، الاستثمار، المؤسسات المستقلة، والمبادرات الاجتماعية والاقتصادية. تحولت أدوات الحكم من القوة الخشنة إلى ما يُعرف بـ”القوة الذكية”، عبر مزيج من السلطة الرمزية، الحكامة الاقتصادية، والرؤية الاستراتيجية.
كما كان المنصور الذهبي بارعاً في تدبير التناقضات الدولية بين العثمانيين والأوروبيين، محققاً نوعاً من الاستقلال الاستراتيجي. فأقام علاقات مع إليزابيث الأولى ووقع اتفاقيات تبادل تجاري مع البرتغاليين والإسبان، من دون أن يفقد المغرب استقلاله. ويواصل الملك محمد السادس هذا النهج بأساليب حديثة، حيث اعتمد دبلوماسية تنموية متعددة الأقطاب، سواء مع أوروبا، الولايات المتحدة، الصين أو إفريقيا. وقد برزت مكانة المغرب تحت حكمه كقوة إقليمية ناعمة، قادرة على تأمين مصالحها الاستراتيجية دون تصادم مباشر، سواء في ملف الصحراء أو في علاقاته الإفريقية.
الاقتصاد: من ذهب السودان إلى الاقتصاد الأخضر
ان اقتصاد المنصور الذهبي كان يعتمد على موارد الغزو (الذهب من السودان)، الضرائب التقليدية، وتجارة القوافل الصحراوية. هذه الثروة استُثمرت في البنية المعمارية والجيش وفي بسط الهيبة السياسية. أما الملك محمد السادس فقد أرسى دعائم اقتصاد متنوع، يقوم على البنية التحتية (ميناء طنجة المتوسط، الطرق السريعة)، الصناعات الحديثة (السيارات، الطيران)، الطاقات المتجددة (نور ورزازات)، إضافة إلى تقوية القطاع البنكي والمبادلات الإفريقية. لم يعد الحكم يرتكز على الذهب، بل على الاستثمار والإنتاجية والشراكات الدولية.
خاتمة: من الحكم الإمبراطوري إلى القيادة الإصلاحية
رغم اختلاف الزمن والسياق، فإن الذي يجمع بين أحمد المنصور والملك محمد السادس الذكاء السياسي، والقدرة على المناورة، وإدراك مركزية المغرب الجيو-سياسية. الأول مثّل قمة الحكم الإمبراطوري المستقل في العصر الإسلامي، والثاني يقود ملكية إصلاحية في ظل العولمة والرقمنة.
وإذا كان المنصور الذهبي قد حكم بالسيف والذهب والرمزية، فإن الملك محمد السادس يحكم بالتنمية، التوازن، والمؤسسات. والاثنان قدّما نموذجاً فريداً في فن الحكم، كلٌ في زمانه، وأثبتا أن المغرب كان وسيظل قادراً على إنتاج قياداته الخاصة، من قلب تاريخه، لا من هوامشه.