يستخلص المنهج التحليلي لمفهوم إمارة المؤمنين في الدستور المغربي 2011 أنها ليست صفة رمزية تحدد صلة الدين بالسياسة في المملكة المغربية فقط؛ بل إنها مؤسسة دستورية أصيلة تؤسس الشرعية والمشروعية التاريخية والسياسية، فموقعها في النسق الدستوري ركن من أركان تحقيق الوحدة العقدية وضمان الأمن الروحي والتوسط المنهجي فيه، مع الوعي العلمي بالتعارف والتسامح مع الآخر واحترام الاختلاف العقدي والفكري في الاجتماع الإنساني. ويكشف الفصل الحادي والأربعون من دستور 2011 بالمنطوق الصريح أن “الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية”؛ فولاية أمر المؤمنين قائمة على البيعة الشرعية باعتبارها عقدا واقعيا تحكمه الضوابط الشرعية في تحقيق مقاصد الوحي القرآني، نحو الأمانة والعدل والحق والتكريم والحرية ونبذ الظلم ومناهضة الاستعلاء… في التدبير السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي للأمة المغربية؛ فالملك كما يترأس المجلس العلمي الأعلى الذي يتولى حماية العقيدة الإسلامية على منهج أهل السنة والجماعة وضمان حرية ممارسة الشعائر التعبدية، فإنه أيضا الضامن للتوازن بين الدين والدولة دون الوقوع في العلمانية المطلقة أو الدولة الدينية المطلقة. ومن مميزات هذا التوازن الدقيق ممارسة الملك السلطات الدينية من جهة، والسلطات السياسية التي تقررها المؤسسات الدستورية من جهة أخرى.
ولعل التوازن العلمي في المنهج السياسي يشكل مسلكا دقيقا في الانتقال من الشرعية والمشروعية إلى التفكير الاستراتيجي في التمكين التنموي الشامل والعمل على ترسيخ الاستقرار السياسي ومراقبة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وينظر إلى هذا الانتقال المحكوم بالجدية والفاعلية والإنتاجية من وجهتين: من وجهة أولى، ينظر عبقرية متجلية في القدرة الفريدة على قيادة التحولات العميقة في المملكة بمنهج علمي جامع بين الاستمرارية التاريخية والتجديد الضروري المستجيب للتحديات الواقعية، وفق مشروع مجتمعي ديمقراطي تنموي. ومن وجهة ثانية، ينظر ذكاء استراتيجيا في التعامل مع تحديات الواقع والآفاق المستقبلية، من منطلق أن الفكر الاستراتيجي فكر مستقبلي يقوم على التخطيط الاستراتيجي بمنهجية علمية وهندسية في الحصول على النتائج التنموية، وذلك بكونه فقها متينا بالواقع المعيش ومعادلات تحدياته العسيرة، واجتهادا استشرافيا بالمخاطر المهددة في المستقبل القريب والبعيد، لضبط التوقعات بالمنطق الرياضي العميق من أجل احتلال الموقع المستقبلي المشرف بين الأمم.
ويمكن استكشاف هذا الفكر الاستراتيجي وأبعاده الحضارية في خطاب الذكرى الخامسة لتولى العرش، في قوله حفظه الله تعالى: “لقد ارتأينا ونحن نخلد في هذا اليوم الذكرى الخامسة لتحملنا أمانة قيادتك ألا يكون خطاب العرش لهذا العام مجرد حصيلة لما حققناه من منجزات على أهميتها؛ بل نريده رؤية مستقبلية للمضي قدما في توجهنا الاستراتيجي لبناء مغرب موحد ديمقراطي ومتضامن منفتح ومتقدم، مغرب يعيش في انسجام وتفاعل مع عصره، باذلا كل ما في وسعه لتحقيق الازدهار لأبنائه ولجيرانه وشركائه مساهما في توطيد الأمن والسلم في محيطه الجهوي والدولي”.
وقد حدد حفظه الله لهذه الرؤية المستقبلية سبعة محاور رئيسة، وهي: “إيجاد حل نهائي لقضية الصحراء، وتحصين الانتقال الديمقراطي والإسراع به قدما إلى الأمام، وترسيخ مبادئ المواطنة الملتزمة عبر استكمال ميثاق التربية والتكوين، وإصلاح الحقلين الديني والثقافي، ووضع عقد اجتماعي جديد، والنهوض بالتنمية القروية وبالقطاع الفلاحي، وبناء اقتصاد عصري منتج ومتضامن وتنافسي لكسب الرهانات الحيوية للعولمة والتبادل الحر وتعزيز مكانة بلدنا كقطب جهوي وفاعل دولي في عالم يعرف تحولات حاسمة ومتسارعة”؛ فهذه المحاور هي ذات أبعاد وطنية ودولية، تكشف عنوانا كليا لفكر استراتيجي مستديم في تجاوز هموم الأمة المغربية خاصة والأمة الإسلامية عامة. إن تحقيق المأمول من إصلاح الأمة ونهضتها لا يتم بشعارات إيديولوجية براقة لا تملك إلا العواطف الجياشة التي لا صلة لها بالتبصر العلمي في الفكر الاستراتيجي المرتكز إلى عقلانية الذكاء السياسي والاجتهاد الفقهي والفكري، وإلى علم الموازنات بين المصالح والمفاسد في الساحة الوطنية والعالمية، وإلى علم الأولويات التي تبدأ من إصلاح الأولى فالأولى في سياق وطني معقد وسياق خارجي ضاغط تاريخيا وواقعيا في السياسة والاقتصاد والمعرفة.
ومن ملامح هذا الفكر الاستراتيجي في السياق الوطني ملمح معالجة التفاوت المجالي بين جهات المملكة الحضرية والقروية، الذي يتخذ شكل سرعتين مختلفتين في تحقيق التنمية، بما يجعل العدالة المجالية متأخرة في الوصول لنموذج تنموي موحد في تمكين جهات المغرب من الانتفاع بخيراته الظاهرة والباطنة. وفي هذا الملمح، تبرز نجاعة الاستمرارية في التفكير الاستراتيجي المتعلق بتحدي “إحداث نقلة حقيقية في التأهيل الشامل للمجالات الترابية وتدارك الفوارق الاجتماعية والمجالية”؛ وذلك في خطاب العرش للاحتفاء بالذكرى السادسة والعشرين، يقول أمير المؤمنين حفظه الله: “غير أنه مع الأسف ما تزال هناك بعض المناطق، لا سيما بالعالم القروي، تعاني من مظاهر الفقر والهشاشة، بسبب النقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية؛ وهو ما لا يتماشى مع تصورنا لمغرب اليوم، ولا مع جهودنا في سبيل تعزيز التنمية الاجتماعية وتحقيق العدالة المجالية.. فلا مكان اليوم ولا غدا لمغرب يسير بسرعتين”. فهذه رؤية استراتيجية تؤسس فيها إمارة المؤمنين جيلا جديدا “من برامج التنمية الترابية يرتكز على تثمين الخصوصيات المحلية، وتكريس الجهوية المتقدمة ومبدأ التكامل والتضامن بين المجالات الترابية”.
إن متابعة الاستباق السياسي بالمنهج النسقي في الفكر الاستراتيجي في عبقرية إمارة المؤمنين تبرز مؤشرات علمية في الوعي بالتخطيط الاستراتيجي. ولعل الوقوف على بعض المؤشرات التنموية في هذه العبقرية قد يؤسس لمعالم نظرية متجددة في الفكر الاستراتيجي الإصلاحي لإمارة المؤمنين في عهد الملك محمد السادس حفظه الله. ومن هذه المعالم:
أولا: معلم عبقرية الإصلاح السياسي المتمثلة في الاستباق السياسي، الذي يقيم ركائز الإصلاح الوطني بمنهج التدرج المعقلن. ومن نماذجه: صياغة دستور 2011 من أجل تقوية الاستقرار السياسي في سياق حراك عربي ناتج عن فشل مشاريع الخطاب المعاصر النهضوي بتعدد انتماءاته الإيديولوجية، وكذلك في مشروع عبقرية التفكير المتبصر بأهمية الجهوية الموسعة والديمقراطية المحلية.
الارتكاز إلى الفكر المؤسسي بدل الشخصنة الفكرية، الفكر الذي يقوم على الاستمرارية والفعالية والعدالة، حيث تصير المشاريع مؤطرة بالمؤسسات الدائمة المنتظمة بقواعد واضحة وآليات رقابة وربط المسؤولية بالمحاسبة وتعزيز العمل الجماعي الذي يرسخ قيم المواطنة والانتماء إلى الوطن.
ثانيا: معلم عبقرية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي المتمثلة في إنجاز مشاريع كبرى لها غايات تربط الإصلاح الاقتصادي بالانفتاح على الاستثمارات العالمية والإسهام في تحقيق العدالة الاجتماعية، ومنها: ميناء طنجة المتوسط الذي شكل نقطة تبادل اقتصادي عالمي؛ مما جعله قطبا لوجيستيا عالميا فعالا وناجعا في الأهمية السياسية والدبلوماسية، وقاطرة للتنمية الاقتصادية وجسرا للاندماج الدولي وتعزيز الموقع الجغرافي الاقتصادي للمملكة الشريفة.
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لتأسيس نموذج تنموي اجتماعي يملك صفة النجاعة والفرادة التي تؤهل لرؤية استشرافية لمغرب عالم مجتمع المعرفة والذكاء الإلكتروني على المديين المتوسط والبعيد.
إصلاح مدونة الأسرة ليس بكونه فقط مجرد تعديل قانوني وتطوير للنظام القانوني المغربي في المجال الأسري؛ بل بكونه أساسا مشروعا استراتيجيا مفتوحا برؤية اندماجية تكاملية تراقب التطورات في الواقع الاجتماعي المغربي والفاعلية النسائية به، والنظر في نوازله من منظور الشريعة وأحكامها الثابتة في الفقه المالكي وحفظ مقاصدها الكلية الضرورية، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، وما يقتضيه هذا الحفظ للكليات المصلحية من اجتهاد مقاصدي في النص الشرعي، قاصد إلى تحقيق العدل والمساواة والتمكين من الحقوق والحريات، وترسيخ قيم المودة والرحمة والفضل والفضيلة.
ثالثا: معلم عبقرية إصلاح الشأن الديني وإبراز الثوابت المغربية في سياق مواجهة أزمة الأخلاق العالمية وتحديات التطرف والإرهاب والاضطرابات الدولية، ومنها: إنجاز استراتيجية مندمجة وشمولية متعددة الأبعاد ثلاثية الأركان أهلت الحقل الديني لتحصين المغرب من نوازع التطرف والإرهاب والحفاظ على هويته المتميزة بالوسطية والاعتدال والتسامح، وهي الركن المؤسسي، الركن التأطيري الفعال الذي أسس من أجله المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، الركن المتمثل في التربية الإسلامية السليمة والتكوين العلمي العصري، وذلك بتأهيل المدارس العتيقة وإدماج طلبتها في المنظومة التربوية الوطنية. ويندرج في هذا العمل على خطة تسديد التبليغ من أجل إصلاح تدين المغاربة والبلوغ به للتمكين من عيش الحياة الطيبة في كل مناحي الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية.
تحديد مرجعية الفتوى التي هي منوطة بإمارة المؤمنين، بإحداث هيئة علمية داخل المجلس العلمي الأعلى لاقتراح الفتاوى على جلالة الملك حفظ الله تعالى فيما يتعلق بالنوازل التي تتطلب الحكم الشرعي المناسب لها.
المحافظة على الثوابت المغربية؛ وهي: العقيدة السنية الأشعرية والمذهب المالكي، والتصوف السني على طريقة الجنيد، وإمارة المؤمنين الضامنة لحراسة الدين واستجلاب مصالح الدنيا؛ وذلك بغاية بناء الشخصية المغربية المتشبثة بهويتها الإسلامية البالغة، ومقاصدها الأخلاقية العالية، والمنفتحة على مجريات العالم المعاصر بكل عقلانية مانعة من الانجرار أمام إرادة مقولات فكرية عولمية، نحو نهاية التاريخ أو صراع الحضارات أو موت المعنى وشيوع العدمية.
رابعا: معلم عبقرية الدبلوماسية المتزنة الفاعلة المستثمرة للدين والتاريخ والجغرافيا في تحقيق المصالح الحيوية للمملكة المغربية، ومنها: العودة القوية الحاسمة للاتحاد الإفريقي سنة 2017، والتي أبانت عن التأسيس القوي لموقع المملكة في إفريقيا والعمل على تأكيد مغربية الصحراء من داخلها بما يظهر قوة الدبلوماسية المغربية بجميع أنماطها الدينية والسياسية والاقتصادية في تجاوز خصوم المملكة في تحقيق وحدته الترابية، وإبراز مقوماته الحضارية في العمل على تمكين إفريقيا من سيادتها في استغلال خيراتها واحتلالها مكانة في المجتمع الدولي. وتمثل المبادرة الأطلسية نقلة نوعية في فتح الواجهة الأطلسية على إفريقيا، وفي تطوير البنية التحتية الساحلية وتقوية الاندماج الإفريقي، وتأكيد المغرب قوة إقليمية صاعدة ذات تأثير قاري ودولي.
المشاركة الفعالة في القضايا الدولية بمنطق الحياد الإيجابي الذي يبرز المملكة المغربية فاعلا مهما في السياسة العالمية موثقا به في إيجاد الحلول للمشكلات العالمية والإسهام في مسالك تحقيق السلم والأمن العالميين. ولعل استراتيجية اليد الممدودة نوعا من الفكر السياسي الناعم الذي يكشف أهمية البعد الأخلاقي والتاريخي والحضاري في العلاقات الدولية.
تقوية رئاسة لجنة القدس الشريف، وجعلها فاعلة في رسم علاقات استراتيجية مع العمق الإسلامي من أجل الوصول إلى تحرير فلسطين من الاحتلال الغاشم، وفق رؤية علمية واقعية وسط عالم معقد ومختل القيم والمعايير.
إن هذه المعالم جزء من فكر استراتيجي متناسق في ظل مفهوم إمارة المؤمنين، الذي تتبلور فيه القيادة الدينية والسياسية؛ وهو مشروع إنمائي بديناميكية متجددة للتواصل والتأثير والبلاغ، كفيل بتأهيل المملكة الشريفة لرفع كل التحديات في جميع المجالات الدينية والسياسية والاقتصادية والفكرية بقيادة إمارة المؤمنين، باعتبارها الدلالة الأصلية الصريحة على وحدة الأمة المغربية وضمانة استقرارها وتقدمها، وترسيخ مسالك تثبيت مبادئ الحرية وحقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية الحقة في أفق هويتها الدينية والحضارية. وبهذه النماذج الجزئية من المعالم الناجحة يتكشف الفكر الاستراتيجي منظومة قيم إنسانية حضارية في عبقرية إمارة المؤمنين من حيث الذكاء الاستراتيجي والاستباق السياسي؛ إنها عبقرية ملك وعبقرية أمة في جعل المملكة الشريفة مستجيبة لرب العباد الهادي للتخطيط الاستراتيجي المحقق للأمن من كل خوف يقلق الحياة الإنسانية فينتزع منها عيش الحياة الطيبة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) سورة الأنفال الآية 24.