أكد الخبير السياسي الروسي الباحث في الشؤون الروسية والدولية، تيمور دويدار، أن العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها موسكو في أوكرانيا حققت عددا من أهدافها، لا سيما على مستوى السيطرة الميدانية على مناطق مهمة شرقي أوكرانيا، معربا في الوقت ذاته عن تشاؤمه تجاه نجاح المفاوضات الجارية بين موسكو وكييف، محمّلا الدول الأوروبية مسؤولية اندلاع الحرب نتيجة تجاهلها مبادرات روسيا الأمنية.
وفي ما يتعلق بالنظام العالمي الجديد، اعتبر الخبير السياسي الروسي ذاته، في الحوار التالي الذي أجرته معه جريدة هسبريس الإلكترونية، أن الصين وروسيا تسعيان إلى تشكيل توازنات النظام الدولي بما يعكس تعددية قطبية حقيقية وينهي الهيمنة الغربية المستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مشيرا في الوقت ذاته إلى وجود صعوبات تعتري إدماج إفريقيا في هذه المنظومة الدولية الجديدة، على رأسها ضعف المؤسسات، وانتشار الفساد، وهشاشة نماذج الحكم في عدد من الدول الإفريقية.
وأبرز دويدار أن نجاح الدول الإفريقية في أن تكون طرفا فاعلا في النظام العالمي الجديد يظل رهينا بمراجعة داخلية لنماذجها السياسية والإدارية، مسجلا أن الشراكة الروسية مع بلدان القارة الإفريقية تعتمد أساسا على التعاون والمصالح المشتركة ونقل التكنولوجيات والتقنيات، بعيدا عن منطق الهيمنة أو الوصاية أو أية شروط سياسية أو أيديولوجية، بخلاف النموذج الغربي القائم على الإملاءات تحت غطاء الديمقراطية وحقوق الإنسان.
نص الحوار:
أولا، نبدأ بالعملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا من أجل “حماية” أمنها القومي و”حماية” المواطنين الناطقين بالروسية في بعض المناطق الأوكرانية، في إطار مفهوم “العالم الروسي” الذي أكدت عليه عقيدة السياسة الخارجية الروسية الجديدة. هل نجحت روسيا، بعد أكثر من ثلاث سنوات من إطلاق هذه العملية، في تحقيق أهدافها المعلنة؟
نعم، نوعا ما؛ يمكن القول إن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا حققت العديد من أهدافها، خصوصا إذا ما نظرنا إلى الخريطة على الأرض، حيث سيطرت القوات الروسية على أراضٍ هامة في شرق أوكرانيا ذات الأغلبية الناطقة بالروسية، فيما يجري التقدم على محاور وجبهات متعددة لفسح المجال أمام إنشاء منطقة حدودية عازلة على مستوى منطقة “سومي”.
لكن يجب التأكيد هنا أن هذه الحرب ليست حربا بين موسكو وكييف فقط، بل هي حرب بين روسيا الاتحادية والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وهي أيضا حرب نشأت بسبب استخدام الدول الغربية أوكرانيا سياسيا وعسكريا لضرب مصالح الروس وأمنهم القومي، وهو ما أدى إلى ما نشاهده اليوم.
في سياق ذي صلة، أُجريت مؤخرا جولة جديدة من المفاوضات بين موسكو وكييف في إسطنبول. هل تعتقدون أن الشروط الموضوعية لنجاح عملية التفاوض متوفرة حاليا في ظل استمرار الضربات العسكرية المتبادلة بين الجانبين؟
أنا شخصيا لا أشعر بأي تفاؤل بشأن إمكانية نجاح هذه المفاوضات، نظرا للاختلاف التام والكامل في وجهات النظر بين روسيا وأوكرانيا، ومن ورائها الغرب الذي يوجّه ويؤثّر على القرار الأوكراني في هذه المفاوضات، في مقابل تشبث موسكو بشروطها من أجل التوقيع على أي اتفاق سلام أو وقف للحرب.
إن الإشكال ولبّ الخلاف الذي أدى إلى نشوب هذه الحرب هو عدم اهتمام أوروبا بمنظومتها الأمنية، فقد رفضت في السابق كل المبادرات والحلول التي قدمتها روسيا من أجل ضمان أمنها القومي، وظلت مصرة على معاكسة مصالح موسكو واقتحام مجال نفوذها الحيوي في أوروبا الشرقية، وهو ما تسبب في هذه الحرب التي تُخاض اليوم على الأراضي الأوكرانية بين روسيا والغرب.
ما هو سقف التنازلات التي يمكن أن تقدمها روسيا في عملية المفاوضات؟ لأن هناك من يعتبر أن الشروط الروسية للتوصل إلى اتفاق مع كييف هي تعجيزية أو استسلامية، خاصة ما يتعلق بقبول الضم الروسي للقرم ودونباس.
شروط موسكو واضحة في هذا الإطار، وهي خفض عدد القوات الأوكرانية إلى حوالي 70 ألف عنصر، والابتعاد عن الحدود الروسية. وهذا ما يفسّر سعي روسيا إلى إنشاء منطقة عازلة على الحدود. ثم الالتزام بعدم تسليح أوكرانيا، سواء داخليا أو من طرف الغرب، إلى جانب الاعتراف بالأراضي التي سيطرت عليها روسيا بأنها أراضٍ روسية، وإقرار حرية التعبير باللغة الروسية داخل أوكرانيا، وإعادة فتح المعابد الأرثوذكسية التابعة للكنيسة الروسية التي أغلقتها كييف.
وبالنسبة لموسكو، فإنها تخوض حربا من أجل تحرير أراضيها في شرق أوكرانيا، التي تم ضمها إلى روسيا وفق القانون الروسي. وقد يكون شرط القبول بالضم تعجيزيا بالنسبة للإدارة في كييف، وفق ما يقوله البعض، لكن باقي الشروط، في رأيي، كان على أوكرانيا أن تقبلها منذ ثلاث سنوات دون الدخول في هذه المعركة التي ليست في صالحها. وبالتالي، فإن عناد أوكرانيا، ودفعها من طرف الغرب إلى خوض حرب مع الروس يسمونها “حرب تحريرية”، هو مجازفة خطيرة، لم تربح منها كييف شيئا، بل تخسر كل يوم العديد من البلدات والمدن لصالح القوات الروسية، بعدما أهدرت الكثير من فرص وقف إطلاق النار وفض الاشتباك التي منحتها لها موسكو.
هل ترى أن المزاج الشعبي الراهن قادر على استيعاب حل تفاوضي لا يحقق كامل الأهداف المعلنة للعملية العسكرية، خاصة في ظل التضحيات الكبيرة التي قدمها الروس منذ انطلاق هذه الحرب؟
غالبية الرأي العام في روسيا تؤيد وجهة نظر الكرملين، وما ينطق به الكرملين سيقبله الرأي العام الروسي، رغم أن بعض النخب تعتقد وترى أن الحرب الجارية الآن هي حرب أهلية بين شعبين كانا تحت مظلة دولة واحدة، هي الاتحاد السوفياتي.
كيف تقرؤون التحرك الأمريكي الأخير في المنطقة بعد قرار ترامب نشر غواصتين نوويتين بالقرب من الأراضي الروسية؟ هل هو مؤشر على تحول جديد في هذه الحرب أم مجرد رسائل أمريكية إلى موسكو من أجل القبول بشروط معينة في المفاوضات؟
التهديدات الأمريكية ونشر غواصات نووية بالقرب من الأراضي الروسية ليس بالأمر الجديد، بل هو جزء من سياسة استعراض القوى والقدرات العسكرية المستمرة منذ عقود بين الجانبين. ومن الطبيعي، بل من المتوقع، أن تنشأ مثل هذه التصريحات والتهديدات، وحتى المناوشات، وهذا يحدث بشكل شبه يومي على الحدود الروسية-الأمريكية في البحار. لكن في اعتقادي، يبقى هذا الأمر محدودا، ولا يتجاوز مجرد التصريحات والتهديدات التي تبقى تحت سقف الحسابات العقلانية، لأن نشوب أي حرب نووية بين قوتين نوويتين بحجم روسيا والولايات المتحدة ستكون نتائجه كارثية على العالم.
البعض يتحدث عن حرب من الجيل الرابع تُستخدم فيها البنية التحتية المعلوماتية كسلاح. هل تعتقد أن روسيا تواجه بالفعل نموذج حرب غير مألوف من جانب أوكرانيا ومن ورائها الغرب؟
روسيا اليوم تواجه حربا مركبة على جبهتين: فعلى الجبهة الميدانية تواجه حربا بالوكالة مع أوكرانيا التي تقاتل نيابة عن الغرب وبأسلحة غربية، وعلى جبهة أخرى تواجه حربا إعلامية شرسة تُشن ضدها عبر وسائل الإعلام الأوروبية والغربية، التي تحولت إلى منصات دولية لتشويه صورة موسكو، وحجب الحقائق، وترويج الأخبار المزيفة والموجهة بهدف التأثير في الرأي العام العالمي وتحريض الداخل الروسي.
ولكن لماذا لم تنجح روسيا، رغم إمكانياتها الكبيرة على المستوى الإعلامي، في تشكيل خطاب إعلامي مضاد للرواية الغربية؟
لم تكن روسيا، لسنوات طويلة، تولي أهمية كبيرة لتشكيل خطاب إعلامي مضاد للغرب، وربما يكون هذا الأمر ناتجا عن وجود قناعة ضمنية في موسكو بأن الخطاب السياسي والإعلامي الغربي تجاه الروس متحيّز بطبيعته، وأن محاولة مجاراته غير مجدية.
شكّلت الولايات المتحدة دائما حجر الأساس في منظومة الأمن الأوروبي، لكن مع تصاعد التوجهات الانعزالية في واشنطن، وخاصة مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أصبح مستقبل التحالف الأمريكي-الأوروبي موضع تساؤل. فهل تستطيع أوروبا العيش بدون المظلة الأمنية الأمريكية؟
إن توجهات إدارة دونالد ترامب براغماتية، ولا تؤمن بالتحالفات المجانية أو الالتزامات طويلة الأمد ما لم تكن ذات مردود اقتصادي مباشر لواشنطن، بما في ذلك تجاه شركائها الأوروبيين الذين عاشوا لعقود طويلة تحت الحماية والمظلة الأمنية الأمريكية من خلال حلف شمال الأطلسي. غير أن ترامب اليوم يريد إعادة تعريف العلاقة مع أوروبا، بما في ذلك على المستوى الأمني، من منظور الربح والخسارة؛ إذ لا يرى مبررا لاستمرار واشنطن في دفع كلفة الدفاع عن أوروبا.
هذا التوجه يقوّض مفهوم التحالفات التقليدية، ويضع أوروبا أمام خيار الدفع مقابل الأمن أو بناء منظومة أمنية مستقلة عن واشنطن. لكن الإشكال هو استمرار اعتبار هذه المنظومة موجّهة للحماية مما يسميه الأوروبيون التهديدات الروسية، رغم أن روسيا لم تكن في يوم من الأيام ولا تنوي أن تكون أبدا تهديدا لأوروبا، بل كانت تسعى إلى علاقات متوازنة قائمة على حسن الجوار واحترام مصالح جميع الأطراف، غير أن الطرف الأوروبي اختار مسار التصعيد، ونسج رواية عدائية تصوّر موسكو كـ”وحش مزعوم” يهدد استقرار القارة.
ولكن في ظل هذا التمادي الأوروبي في محاولات المساس بمصالح روسيا، وإضعافها، وتقويض أمنها القومي، أو تجاوز الخطوط الحمراء التي رسمتها القيادة الروسية، سيكون الرد الروسي حازما وغير مسبوق، حتى وإن استدعت الضرورة استخدام أسلحة نووية تكتيكية للدفاع عن سيادة روسيا وعمقها الاستراتيجي.
هل يمكن أن تُعيد روسيا التفكير في بناء علاقتها بأوروبا في المستقبل أم إن القطيعة أصبحت عقيدة ثابتة؟
لطالما كانت روسيا منفتحة على التعاون مع أوروبا، وسعت إلى بناء شراكات استراتيجية قائمة على المصالح المتبادلة، لكن بعض النخب السياسية الحاكمة في دول أوروبية معيّنة اختارت الاصطفاف وراء سياسات تصعيدية تخدم أجندات خارجية أكثر مما تراعي مصالح شعوبها، مما أدى إلى تدهور كبير في العلاقات مع موسكو، ودفع الاقتصاد الأوروبي ثمنا باهظا لهذه الخيارات.
لقد كان الأوروبيون يستفيدون من إمدادات الطاقة الروسية بأسعار معقولة وثابتة، أما اليوم، وبعدما قاطعوا موسكو، ارتفعت فاتورتهم الطاقية بأضعاف مضاعفة، حتى إن المواطن الأوروبي بدأ يشعر بثقل هذه القرارات والسياسات غير المدروسة على حياته اليومية، وهو ما انعكس بوضوح في المزاج الانتخابي العام كما ظهر مؤخرا في نتائج الانتخابات في ألمانيا وبولندا.
طيب، تتحدث روسيا كثيرا عن التعددية القطبية والنظام العالمي الجديد. هل تعتقدون أن هذا النظام لا يمكن أن يكتمل بدون تعزيز الصوت الإفريقي في المؤسسات الدولية، وخاصة في مجلس الأمن الذي لا تتوفر فيه إفريقيا على أي مقعد دائم رغم أنها تشكل ثلث المجتمع العالمي؟
لا بد من التأكيد أولا أن النظام العالمي الحالي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أبرز ملامحه تشكيل هيئة الأمم المتحدة ومنح خمس دول العضوية الدائمة في مجلس الأمن لكونها القوى المنتصرة في تلك الحرب. رغم أنني لا أفهم صراحة لماذا مُنحت العضوية لفرنسا التي هُزمت في هذه الحرب وكانت تحت الاحتلال.
وظل هذا النظام قائما، وتكوّنت على إثره دائرتان: دائرة صغيرة مهيمنة على القرار الدولي، تتكون من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، ودائرة كبيرة تضم الدول العربية والإسلامية والإفريقية ودول أمريكا اللاتينية وبعض الدول في آسيا، وهذه الدائرة الصغيرة تسيطر على تجارة السلاح والغذاء والطاقة إلى الدول التي توجد في الدائرة الكبيرة، ولا تريد أن يكون لها قرار اقتصادي وصناعي مستقل حتى تبقى دائما تابعة لها.
وسط هذه الهيمنة يوجد توجه جديد تقوده الصين وتدعمه روسيا لإعادة بناء نظام عالمي جديد بديل للنظام الحالي الذي لم يعد يعكس موازين القوى الجديدة في العالم، ولا يأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الصاعدة.
لكن ماذا عن موقع إفريقيا في هذا النظام الجديد؟
إدماج القارة الإفريقية في هذا النظام يواجه العديد من التحديات، أبرزها تلك المتعلقة بنماذج الحكم والإدارة في عدد من الدول الإفريقية. فالهشاشة المؤسساتية وانتشار الفساد يضعفان من قدرة القارة على التفاعل والتأثير. وبالتالي، فإن إفريقيا مطالبة بإعادة النظر في أنماطها الإدارية، وإعادة تعريف مصالحها الاستراتيجية، والاستفادة من دروس الماضي، خاصة ما يتعلق بالهيمنة الغربية على القارة، واستنزاف ثرواتها من طرف القوى الاستعمارية لعقود دون تقديم نماذج تنموية حقيقية.
وعليه، فإن صناع القرار في إفريقيا مدعوون لمراجعة تحالفاتهم، والانفتاح على قوى جديدة قادرة على جعل إفريقيا طرفا فاعلا لا تابعا وعلى أساس المصالح المشتركة، كالصين وروسيا.
لكن هناك من يتساءل هل تمنح السياسة الصينية أو حتى الروسية في إفريقيا، التي تعتمد على الشراكة مع الدول بدون ربط ذلك بقيم مثل الديمقراطية أو حقوق الإنسان، هذه الدول هامشا كبيرا من المناورة والحرية في اختيار الشركاء أم إنها تعيد إنتاج أنظمة ديكتاتورية في القارة؟
إن روسيا لم تقدّم يوما نفسها للعالم كوصيّ على الديمقراطية أو كمدافع عن الأنظمة الديكتاتورية، كما يفعل النظام الغربي الذي استخدم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب للتدخل في شؤون الدول الإفريقية وسرقة مقدراتها. بل على العكس تماما، تنتهج روسيا مقاربات تقوم على احترام الدول وعدم فرض نماذج أو إملاءات معينة عليها.
وتتعامل روسيا في إفريقيا مع دول وأنظمة لها قواعد شعبية كبيرة في بلدانها، وتقدّم حلولا اقتصادية وتنموية تقوم على نقل التكنولوجيات والتقنيات الروسية في مجالات متعددة، سواء الطاقة أو التعليم أو تدبير الموارد المائية، وتشجع الإنتاج والصناعة المحلية، كما تقدم حلولا أمنية للمشكلات التي تواجهها هذه البلدان، وتدعم مشاريع تنموية حقيقية تمسّ حياة الشعوب والمجتمعات، ما يعكس فهما روسيا لحاجيات إفريقيا، بعيدا عن منطق الهيمنة والاستعمار.