في زمنٍ تَفْرِض النصوصُ إيقاعَها السريعَ وخطابَها المقولبَ يطلّ علينا الكاتب المغربي الشاب وائل احساين بكتابٍ لا يُصنَّف، لا يُروى، ولا يُختصر، “مدينة تُصغي للحجارة” ارتجاجٌ داخليّ لكائن يبحث عن نفسه كمن يبحث عن ظلّه في ضوء مُنطفئ، أو كمن يحدّق في مرآةٍ لا تعكس إلا ما نهرب منه.
هذا العمل، الممتد بين شذرات وجدانية ونصوصٍ سردية تأملية، هو أقرب إلى أنطولوجيا داخلية أو يوميات كينونة تتفكك أمام قارئها، دون وعدٍ بإعادة التركيب. منذ اللحظة الأولى يصرّح الكاتب بأنه لا يروي قصة، بل يخلع عن اللغة يقينها، ويفتح الجرح ليستمع إلى ما يقوله الألم حين يصمت.
في قلب الكتاب يتحول سؤال “من أنا؟” إلى متاهة لا تُفضي إلى جواب، بل إلى انهيارٍ مستمرٍ للتعريفات الجاهزة. الأنا هنا ليست هوية ثابتة، بل تفاعل زمنيّ هشّ، فراغٌ بين ظلالٍ وصدى، ومرايا مغطاة لا تبوح بصورة بل بانمحاء.
في فصل بعنوان “حين تلاشى السؤال” يدخل القارئ إلى غرفة بيضاء لا باب لها، لا زمن، لا ذاكرة. الجدران تسأل، لا تجيب. المرآة المغطاة تخفي عمقًا لا يعكس، بل يمتص. والكاتب يروي من داخل غرفة الذات: “كل ما أريده أن أجدني، ولو لمرةٍ واحدة، دون أن يسبقني ظلي.”
يُشبه هذا الكتاب صرخة مكتومة بلغة شاعرية، كتابةٌ لا تُطمئن، كتابة ضد التسميات، ضد اليقين، ضد الراحة. إننا أمام مشروع إبداعي يحاول أن يفكّك الذات ليكشف هشاشتها الجوهرية.
تنزلق اللغة في هذا العمل من التصريح إلى التلميح، من الفكرة إلى الصورة، ومن الفلسفة إلى البوح. وهي ليست وسيلةً للتواصل، بل أداة للحفر النفسيّ، أشبه بإزميل داخلي ينحت صخر الصمت بحثًا عن صوتٍ نقي.
تتحوّل المدن (فاس، مالقة، مليلية) إلى مرايا خارجية للأنا الممزقة، لا تُستَحضَر بوصفها أماكن بل بوصفها “كائنات تتنفس وتطرح السؤال”. في فاس، مثلا، “لا توجد إجابة بل سؤال مستمر”، وفي مالقة “تعيش الذات كوهم متحرك”، وفي مليلية تسكن المدينة الحجارة التي تصغي، والذاكرة التي لا تموت.
ما يُميز “مدينة تُصغي للحجارة” ليس ما يقوله المبدع الصاعد، بل كيف يقوله، فالكتاب يراوح بين الشعر والفلسفة والمونولوغ الذاتي، مُجسّدًا ما يمكن أن نُسميها “كتابة في التخوم”، حيث تتقاطع اللغات والأجناس والأسئلة، ولا يعود للقارئ من ملاذ سوى مشاركته في التيه.
هذا عملٌ لا يُقرأ بعين التلقي المعتاد، بل يُرتجف معه، كما يقول الكاتب في استهلاله؛ هو أشبه بـ”مخطوطة روحية” لكائن يكتب كي يبقى السؤال حيًّا.
“مدينة تُصغي للحجارة” عملٌ لا ينافق القارئ، لا يهادن اللغة، ولا يسعى لإرضاء الذوق، بل ينتمي إلى تلك النصوص النادرة التي تُكتَب لأنها لا تملك خيارًا آخر. نصٌّ لا يعرض الذات بل يفكّكها، لا يدّعي الحكمة بل يسبح في قلقها، ولا يخاف من الفراغ بل يحتفي به كمساحة اكتشاف.
وائل احساين، بهذا العمل، ينضم إلى كتّاب الحافة، أولئك الذين يعرفون أن الكتابة لا تُنقذ، لكنها تُضيء الطريق نحو الهاوية لكي نعي أننا كنّا نسقط منذ البداية، فقط بطريقة أكثر أناقة.