لأن الموضوعية لا تُختزل في جلد الواقع، ولا يُقاس الإنصاف بتضخيم العثرات، فإن من الواجب، في خضم ما تنقله وسائل الإعلام من أخبار شبه يومية عن عزل رؤساء جماعات ترابية في مختلف جهات المملكة، وما يتردد عن ملفات الفساد وهدر المال العام، أن نُميز بين من جعلوا من مسؤوليتهم بوابة للاغتناء، وبين من ظلوا أوفياء لفكرة الخدمة العمومية كواجب لا امتياز.
لقد ترسخ في أذهان كثير من المواطنين انطباع قاتم مفاده أن الجماعات الترابية أضحت، في غالبها، أوكارًا للعبث والتجاوز والفساد، وأن محاكم جرائم الأموال باتت ممرًّا شبه إلزامي لرؤسائها.
وإن كانت هذه الصورة ترتكز على وقائع لا يمكن إنكارها، فإنها، بالمقابل، لا تعكس الحقيقة الكاملة، ولا تُنصف الحالات التي تشكّل استثناءً في هذا المشهد المعتم.
من هذا المنطلق، وبعيدًا عن التعميم المُطلق والانطباعات الجاهزة، أجد من الضروري التوقف عند تجربة جماعة ترابية تقع في الهامش الجغرافي، لكنها تستحق أن تكون في واجهة الاهتمام لما يُقدّمه رئيسها الحالي من نموذج مختلف في التسيير المحلي، جماعة حدكورت، الواقعة بإقليم سيدي قاسم، ضمن نفوذ جهة الرباط – سلا – القنيطرة.
في أكتوبر الماضي، وبموجب المادة 70 من القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات الترابية، صدر قرار عزل رئيسة جماعة حدكورت، التي جاءت بها انتخابات 8 شتنبر 2021 إلى رئاسة المجلس.
جاء هذا القرار بعد ثلاث سنوات قاسية من الشلل المؤسسي، ساد فيها “البلوكاج” المفتعل، الذي أصاب المرفق الجماعي بالجمود، وعطّل عجلة تدبير الشأن المحلي، وأفرغ التجربة الانتخابية من مضمونها التنموي.
لقد عاش سكان حدكورت تلك المرحلة كما لو كانت مرحلة نفي جماعي لطموحاتهم. توقفت المشاريع، وأُجهضت الاستثمارات، وأُدرجت حاجات المواطنين في خانة الرغبات المؤجّلة إلى أجل غير مسمى.
ومن قلب هذا الانسداد الذي طال أمده، انبثقت صفحة جديدة في تاريخ جماعة حدكورت، مع انتخاب رئيس جديد حظي بدعم أغلبية هجينة، سعت إلى قلب الطاولة على من سبق، وإنقاذ ما تبقّى من زمنٍ تنمويٍّ مهدور، واستعادة الحد الأدنى من منطق الحكامة والمسؤولية.
أغلبيةٌ خرجت من رحم الصراع الطاحن، لتطوي صفحة أغلبية عبثية اتسمت بالارتباك والتناحر، وبدأت بوادر تفككها منذ اللحظات الأولى لتسلّمها مقاليد التسيير.
مرحلةٌ وُسمت بسيادة منطق الصراع الداخلي، وتغليب المصالح الفئوية على المصلحة العامة، حيث تحوّل العمل الجماعي إلى ما يشبه “لعبة كسر العظام”، عوض أن يكون رافعة للتنمية وخدمة الساكنة.
ومن قلب هذه المعاناة، بزغ نجم إدريس التهامي، المناضل الاتحادي العتيق، الذي عاد إلى الواجهة لا كطارئ على المشهد، بل كوجه مألوف لتاريخ نضالي طويل، رجل خبر دهاليز الجماعة، وسبق له، في انتخابات 1992، أن قاد ثورة هادئة على حقبة كانت عنوانًا للهيمنة والجمود والتكلّس، حين كان القرار المحلي مرتهنًا لنفوذ رجل قوي، استمد جبروته من ظلال ثقيلة، أثثها الحضور القوي للراحل أحمد عصمان، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، وصهر الملك الراحل الحسن الثاني.
لم يكن التهامي مجرد رئيس جماعة في تلك الحقبة، بل كان نصراً عظيماً لما بعد صراع طويل وشرس ضد السلطوية الإقطاعية المحلية، ومشروعًا سياسيًا يُراكم في الظل، بانتظار لحظة يُفتح فيها هامش التغيير من جديد.
واللافت، في مجرى هذه التحولات، أن هذا المناضل الاتحادي الصامت والحكيم، إدريس التهامي، سيعود إلى المشهد بتحالفٍ غير متوقَّع مع نفس الحزب الذي نجح، قبل عقود، في إبعاده عن رئاسة جماعة حدكورت سنة 1992، حزب التجمع الوطني للأحرار.
تحالفٌ يعكس مفارقات وسريالية السياسة المحلية، حيث تتقاطع المسارات وتُعاد صياغة الولاءات، لا على أساس الانتساب التاريخي والمرجعي والفكري، بل وفق ضرورات التوازن وموازين النفوذ وأسئلة الإنقاذ.
فباسم هذا التحالف، تمكّن التهامي من إزاحة حزب الأصالة والمعاصرة، الذي كان يحظى بدعم قوى انتخابية إقليمية وازنة، نجحت في وقت سابق في إنهاء مرحلة طويلة من الهيمنة، كانت تحوزها قوة انتخابية محلية راكمت حضورها لعقود داخل حزب التقدم والاشتراكية، قبل أن تنقلب على ذاتها، وتُخطئ حدسها السياسي، وتختار الارتماء في أحضان التجمع الوطني للأحرار، متوهّمةً أن هذا الأخير سيضمن لها البقاء على رأس الجماعة، ويُجنّبها السقوط في مواجهة مدّ شبابي صاعد، مدعوم بتحالف غير معلن لجيل قديم من مهندسي الفساد الانتخابي، الذين شاركوا في التوقيع على نهاية تجربة إدريس التهامي نهاية الولاية الانتدابية 1992–1997.
وما إن استعاد إدريس التهامي موقعه على كرسي الرئاسة، حتى تواترت القراءات والتأويلات في أوساط المهتمين بالشأن المحلي بجماعة حدكورت، وبدأت بعض الأصوات ترسم صورة قدحية للرجل، فحواها أن الرئيس العائد ليس سوى واجهة صورية، تُدار من خلف ستار، وأن الخيوط الحقيقية تُحرّك من الرباط، تحديدًا، من طرف كبير التجمع الوطني للأحرار ونجله، الفاعليَن في المشهد السياسي المحلي.
صورة اختزلت التهامي في دور “الرئيس الصوري”، وأعادت إلى الأذهان معادلة التحكم الخفي، حيث تُدار القرارات بالتوجيه والإيحاء والإملاء، لا عبر قنوات النقاش المؤسسي والتدبير الديمقراطي.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: هل التهامي، بتاريخ مواجهاته مع النفوذ الإقطاعي في تسعينيات القرن الماضي، قد رضي لنفسه أن يكون مجرّد أداة ضمن توازنات محلية؟ أم أن في الأمر ما هو أعمق من ظواهر الكلام، وأنّ ما لم يُقل بعدُ هو الأهم؟
إنّ مشهدًا عابرًا التقطته عيني المتابعة للشأن المحلي، أوحى لي بأن الرئيس الحالي يسعى، بهدوء ودون ضجيج، إلى محو الصورة النمطية التي رسمها عنه بعض المتابعين والحَضَّاية ونشطاء نميمة المقاهي ومواقع التواصل الاجتماعي، ممن استلذّوا اختزاله في دور الرئيس الصوري، وانساقوا وراء الرواية السطحية الجاهزة.
في لحظة عابرة ومعبِّرة، تيقّنتُ أن التهامي ليس مجرد رجل يُمارس صلاحياته الشكلية الروتينية، بل بدا لي وكأنه يُعيد رسم ملامح حضوره السياسي التّليد، ويعمد إلى إرسال رسالة بليغة صامتة مفادها أن للرجل رأيًا، وقرارًا، وموقعًا، لا يُدار عن بُعد، ولا يُختزل في تحالفات اللحظة، وأنه لم يخلع بعدُ “دربالة الكادحين” التي ارتداها بدايات تسعينيات القرن الماضي، واعتقد الناس بعد سنوات أنه تخلّص منها، وإلى الأبد.
في المشهد البليغ، يقترب الرئيس المنتخب حديثًا من عون عرضي ممسك بمكنسته، وقد بدا عليه الفتور وهو يتباطأ في تنظيف شارع وسط المدينة، ذلك الشارع المقابل لمقهى “سارة” حيث كنت أتابع المشهد بعين متأملة.
لم يوبّخه، ولم يرفع صوته، بل تقدّم نحوه بهدوء، وانتزع منه “الشطّابة” بلطف وحزم في آن، ثم انحنى، وبدأ يكنس الأرضية بنفسه، كما لو أنه يشطب ما علق بالمدينة من فتور وانكسار وخيبة.
كان الدرس أبلغ من أي خطاب، فحواه أن العمل لا يُنجز بالتذمر، ولا تُخدم المدينة بالشكوى من الأجور الزهيدة فقط، وأن المسؤولية، كيفما كان موقع صاحبها، تبدأ من الأرض… لا من وراء المكاتب المكيّفة.
في تلك اللحظة، ودون أن أدري، استعدت وهج مرحلة كنت أظنها مضت بلا رجعة… مرحلة “دربالة الكادحين، ما يلبسها من وَالَا”، مرحلة “بلدية الزعبول، هادشِّي ماشي معقول”، مرحلة كان فيها الفعل السياسي امتدادًا للأخلاق والمبادئ، لا واجهة للمناورة والارتزاق.
رأيت، في هذا المشهد البسيط لرئيس يحمل مكنسة، صورةً مُعبِّرةً وصادقة، لرجلٍ كنت أظن أن جدوته قد انطفأت تحت رماد الخيبات. أعدتُ رسم ملامح ذاك المناضل الاتحادي العتيق المعتّق، الذي كنت أظنه تخلّى عمَّا كان عليه، بعدما أنهكته الخيانات، ونال منه زمن النكسات والخيبات والانكسارات. ذاك المناضل الذي أصابه الخذلان بما يكفي ليُصاب بداء اليأس… أو يكاد.
لكن يبدو أن بعض الجمر، وإن غطّاه الرماد طويلاً، لا ينطفئ تمامًا… يظلّ هناك، في الأعماق، ينتظر لحظة انكشاف وانبعاث، لحظة صدق، ليتوهّج من جديد.
صحيح أن بيني وبين الرجل حكاية اختلاف مستحدثة نمت بصمتٍ حتى تحوّلت إلى خلافٍ مجحف، خلافٌ آثر هو أن يرفعه إلى مرتبة القطيعة الاجتماعية، قطيعة سرعان ما نالت تصفيق البعض ومباركة من كانوا يُضمرون ضيقًا قديما بتلك الصداقة التي جمعتنا لسنوات.
صداقة نسجناها معًا، منذ العام 2004، بخيوط من الود والمعقول، لكنها، على ما يبدو، لم تكن من الصلابة بما يكفي لتصمد حين عصفت بها رياح الشك والريبة، ولا من السماكة بما يحول دون أن تتآكل أمام شراسة الظلال وأماني الضلال الزاحفة إليها من كل صوب ماكر وحدب خبيث.
ورغم ما طرأ بيننا من جفاء، ورغم ما أحتفظ به من مآخذ مؤسفة لا تترك لي متّسعًا للصفح، مآخذ ترتبط بلحظة فارقة خان فيها الموقف صلابته، وفقدت فيها البوصلة وجهتها الصحيحة تحت ضغط الحسابات الضيقة، فإن صورة الرجل السياسي والجمعوي الجميلة في ذاكرتي لم تُمحَ، ولم تهتز ولم تنكسر.
ما زلت أراه كما عرفته، مناضلًا حكيمًا، يصمت حين يعمّ الضجيج، ويظهر حين تتوارى الظلال. رجل لا يقبل الترويض، ولا يُدار من خلف الستار، قويّ الإرادة، عَنيد المزاج، حادّ الزاوية، لكنه ثابت على ما يراه حقًّا، حتى وإن خذله البعض أو خذلته نفسه ذات لحظة.
وما كان بيننا من خلاف، مهما اتّسعت هوّته، لا يستطيع أن يُبدّد صورة تراكمت عبر مسارٍ طويل من الصدق والمعقول والمواجهة الصادقة.
فالتاريخ، وحده، من يملك أن يزن الرجال، لا بعثراتهم العابرة، بل بما تبقّى منهم حين ينفضّ الغبار.
أدرك تمامًا أن بعض ما قلته لن يُعجب بعض السياسيين والمنتخبين، ولا أتباعهم المتربصين خلف النميمات والغيبات، لكن دعوني أقولها بكل ثقة ودون مواربة: فلتأتوني برئيس جماعة يترجّل من مكتبه، ينزل إلى الشارع، ويقف عند عون عرضي بسيط، لا ليوبّخه إداريًّا، ولا ليهدّده باقتطاع من أجره الهزيل، بل لينتزع منه المكنسة بهدوء ولُطف، ويشرع بنفسه في تعليمه كيف تُكنَس الشوارع، كما لو كان يُعيد ترتيب العلاقة بين المسؤولية والكرامة، وكما لو أن المكنسة في تلك اللحظة كانت أبلغ من ألف خطاب تنموي أجوف.
إنه درسٌ بالغ البلاغة في كيفية تدبير الشأن المحلي بصدق ومسؤولية، وفي المعنى الحقيقي لأن ينزل رؤساء الجماعات من أبراجهم العاجية، لينخرطوا ميدانيًا في تفاصيل العمل اليومي، مرافقين الموظفين والأعوان في أداء مهامهم، لا من موقع الوصاية، بل من موقع القدوة.
إنها لحظة فارقة تعيد تعريف القيادة المحلية، وتقدّم نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه المسؤول الجماعي حين يجعل من حضوره دافعًا للإنجاز، لا أداة للزجر أو وسيلة للظهور.
هي صورة تستحق أن تُزرع في ذاكرة مدينة منسيةٍ تقف على هامش الخريطة، لكنها تتطلع، بكل عناد الأمل، إلى الانعتاق من قبضة سماسرة الانتخابات، ومن رعاية منظومة فساد لطالما صادرت أحلام الناس وأوهمتهم أن التغيير مستحيل.