أخبار عاجلة

سينما السلطة على الشاشة الفضية .. من تمجيد الزعيم إلى اختزال الواقع

سينما السلطة على الشاشة الفضية .. من تمجيد الزعيم إلى اختزال الواقع
سينما السلطة على الشاشة الفضية .. من تمجيد الزعيم إلى اختزال الواقع

سينما السلطة ليست مجرد نوع فني أو أسلوب سردي، بل هي ظاهرة ثقافية وسياسية تعكس ديناميات القوة، والتحكم، والتأثير. كما تشكّل مرآة حقيقية لكيفية توظيف الصورة لتحريك الجماهير وتوجيه الرأي العام. وقد نشأت سينما السلطة في قلب الصراعات السياسية والايديولوجية، وكان هدفها الأساسي في كثير من الأحيان ليس فقط الإبهار البصري، بل السيطرة الرمزية على الوعي الجمعي، وصياغة سرديات تخدم السلطات الحاكمة أو التي تسعى للحكم.

وليست سينما السلطة ظاهرة، بل هي ديناميكية ومتحولة تتغير بتغيّر السياقات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية. وقد تأخذ وجوهاً جديدة في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن للتقنيات الحديثة أن تُستغل لإنتاج صور أكثر قدرة على التأثير، والتلاعب، وإقناع الجمهور. وهنا يصبح السؤال أكثر إلحاحاً: من يتحكم في الصورة؟ ومن يصيغ الواقع؟ وهل يمكننا كمتلقين أن نستعيد سلطتنا أمام هذه العوالم البصرية المهيمنة؟ والسؤال كيف تتشكل سينما السلطة؟ ومن يوجهها؟وما غاياتها؟

سينما السلطة: التوظيف السياسي للسينما

يرتبط مفهوم سينما السلطة بتاريخ طويل من التوظيف السياسي للسينما، منذ أن أدركت الأنظمة الحاكمة أن السينما وسيلة قوية لتشكيل الوعي، وبناء الأسطورة، وتجميل الواقع أو تشويهه بحسب الحاجة. وفي حقبة الأنظمة الشمولية، مثل ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، ظهرت أفلام دعائية تحمل رسائل مباشرة، وتعبّر عن بطولات القادة، وتصور الأعداء بشكل نمطي سلبي. وقدمت المخرجة ليني ريفنشتال في ألمانيا، على سبيل المثال، أفلاماً مثل «انتصار الإرادة» التي تحولت إلى نموذج كلاسيكي، كيف يمكن للسلطة أن توظف الفن البصري لصالحها.

ولا ترتبط سينما السلطة دائماً بالأنظمة الديكتاتورية، بل يمكن أن تظهر أيضاً في الديمقراطيات الغربية بأساليب أكثر نعومة، حيث تتسلل القيم السياسية أو الاقتصادية من خلال سيناريوهات مدروسة، وتطرح رؤية معينة للواقع تخدم مصالح معينة. وكانت السينما الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في فترة الحرب الباردة، في جزء منها سينما سلطة تخدم التوجهات الايديولوجية للغرب، وتعيد صياغة الآخر – كالاتحاد السوفيتي والصين والهند ودول أوربا الشرقية والعالم العربي – في صور نمطية تخدم المصالح الاستراتيجية والسياسية.

وتطرح سينما السلطة نفسها كواقع، وتطمس إمكانية التعدد في الروايات والسرديات، إذ تتحول السينما من فن لتفكيك الواقع إلى أداة لإعادة بنائه وفقاً لتصورات السلطة. وهذا يطرح سؤالاً عميقاً: هل يمكن للسينما أن تكون موضوعية، أم أنها دائماً واقعة تحت تأثير قوى ما، سواء كانت سياسية، اقتصادية، ثقافية، أو ايديولوجية؟ هنا تبرز الحاجة إلى وعي نقدي قادر على تفكيك الرسائل المضمّنة في الصورة، ورصد ما هو غير ظاهر بشكل مباشر.

وقد ظهرت تيارات مضادة لسينما السلطة، سعت لتفكيك خطابات القوة، مثل سينما المخرجين الذين تبنوا مواقف نقدية تجاه السلطة، وطرحوا روايات المهمّشين والمقموعين. وحملت سينما أمريكا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، على سبيل المثال، لواء السينما الثورية، حيث استخدم المخرجون كاميراتهم كأداة مقاومة، وسعوا لكشف بشاعة الأنظمة العسكرية، والتمييز الطبقي، والاستغلال الاقتصادي. وكذلك الحال مع السينما الفلسطينية التي ظهرت كوسيلة مقاومة في وجه الاحتلال، وركّزت على سرد الرواية المغيبة والمقصاة من قبل الإعلام الغربي.

وتأخذ سينما السلطة في العالم العربي، أشكالاً متعددة، تتراوح بين أفلام دعائية مباشرة، وأخرى أكثر subtilité، (رهافة) تخدم توجّهات الدولة، وتروّج لسياساتها، وتقدّم صورة محددة عن المجتمع والتاريخ. ، وظهرت أفلام في بعض البلدان ، تموّلها الدولة وتحتكر إنتاجها، بهدف رسم هوية وطنية معينة، أو الدفاع عن إنجازات النظام، أو تبرير قمع المعارضة، بينما في حالات أخرى، تتدخل السلطة من خلال الرقابة، وتمنع أفلاماً تطرح أسئلة محرجة، أو تنتقد السياسات القائمة.

وليست السلطة في السينما فقط سلطة الدولة، بل يمكن أن تتجلى أيضاً في سلطة السوق، وسلطة الايديولوجيا، وسلطة المهرجانات، وسلطة الجوائز. وتسهم هذه السلطات الخفية في تشكيل ملامح الإنتاج السينمائي العالمي، فتفضّل أنواعاً معينة من القصص، وتقصي أخرى، وتحدّد ما يستحق أن يُعرض، وما يجب أن يُغيب، ولذلك، فإن تحليل سينما السلطة لا يمكن أن ينحصر في الفهم السياسي المباشر، بل يجب أن يشمل كل البنيات التي تتحكم في صناعة الصورة، من الممول إلى الموزّع، ومن المهرجان إلى الإعلام.

لكن السؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح هو: كيف نواجه هيمنة السلطة في السينما؟ الجواب لا يكون فقط عبر النقد والتحليل، بل أيضاً عبر إنتاج سينما بديلة، تسمح بطرح سرديات مغايرة، وتنقل أصوات غير ممثلة، وتفتح المجال للتعدد في الرؤية والتعبير. وتعتبر السينما المستقلة هي أحد أشكال المقاومة، إذ تتيح للمبدعين أن يعبّروا بحرية، ويكشفوا جوانب مهمشة من الواقع، دون الخضوع لرقابة أو توجيه مباشر. وتعاني هذه السينما غالباً من نقص الدعم، لكنها تمتلك قدرة كبيرة على التأثير إذا ما وصلت إلى الجمهور المستعد للإنصات والتفاعل.

سينما السلطة: القدرة على إعادة إنتاج سردية الهيمنة

تطرح سينما السلطة جملة من الإشكاليات التي تتداخل فيها السياسة بالفن، وتستند إلى خلفيات فلسفية عميقة تتعلق بطبيعة السلطة، وحدود الحرية، وإمكانات التمثيل البصري للحقيقة. من أبرز هذه الإشكاليات علاقة السينما بالواقع: هل تعكسه كما هو أم تعيد تشكيله بما يتوافق مع مصالح السلطة؟ وتطرح هذه النقطة سؤالاً فلسفياً عن طبيعة الصورة وعن قدرتها على حمل الحقيقة، كما ناقشها أفلاطون حين ميّز بين الأصل والانعكاس وبين الحقيقة والمحاكاة. ولا تكتفي سينما السلطة بمحاكاة الواقع بل تُعيد إنتاجه بشكل يطمس التعدد ويكرّس رؤية واحدة.

إشكالية أخرى تتعلق بحرية التعبير، فهل السينما قادرة على أن تكون مستقلة عن السيطرة السياسية؟ وفقاً لنظريات ميشيل فوكو، فإن الخطاب الفني لا يمكن أن يُفصل عن آليات القوة، لأن السلطة لا تظهر فقط في السياسات الصريحة، بل في ما يُسمح أن يُقال ويُعرض. وهنا يُطرح سؤال عن الرقابة الذاتية والفنية، وكيف تُصبح أدوات السينما خاضعة للتوجيه غير المباشر من المؤسسات الاقتصادية أو الإعلامية أو الثقافية التي تعيد إنتاج السلطة بطرق مستترة.

الإشكالية الثالثة تتمثل في تمثل الآخر، إذ غالباً ما تُعيد سينما السلطة إنتاج صور نمطية للخصوم أو للثقافات المختلفة بشكل يُقصي التعقيد ويكرّس التبسيط الايديولوجي. تُظهر العديد من الأفلام في السينما الأمريكية، مثل «American Sniper »، (2014) (القناص الأمريكي) للمخرج كلينت إيتسود أو «the Kingdom » (2007) (المملكة ) للمخرج بيتر بيرغ ، صورة العربي كعدو، والإسلام كتهديد، ما يثير إشكاليات فلسفية عن تمثل الآخر والعدالة الثقافية، حيث قدّمت السينما الأمريكية صورة العربي في أكثر من ألف فيلم بصورة مشوّهة، وأكد أن الصورة ليست بريئة بل منحازة وتُعيد إنتاج خطاب السيطرة.

وتطرح سينما السلطة أيضاً إشكالية البطولة والزعامة، حيث يتم تجسيد البطل بوصفه تجسيداً للحق المطلق، مما يُقصي النقاش ويُعيد إنتاج فكرة الزعيم الملهم. في فيلم «The Patriot »،(2000) (الوطني) للمخرج رولاند إيمريش، حيث يظهر ميل جيبسون كبطل خارق يُقاتل من أجل الحرية الأمريكية، بينما يتم تهميش تعقيدات الحرب الحقيقية. وتكرّس هذه الصورة، فكرة أن السلطة دائماً مُخلّصة، وتُعيد إنتاج سردية الهيمنة من خلال شخصيات خالية من التناقض.

وتستند الخلفية الفلسفية لسينما السلطة إلى مفاهيم مثل الحقيقة السياسية والتوجيه الرمزي، كما تظهر في أعمال الفلاسفة المعاصرين مثل جون بودريار، الذي ناقش فكرة المحاكاة، وكيف تُصبح الصورة أهم من الواقع نفسه. ولا تحتاج السلطة إلى ممارسة العنف المباشر، يكفي أن تُسيطر على الصورة لكي تُعيد تشكيل الوعي وتوجّهه ضمن سردية محكمة تبدو بريئة لكنها مُسيّسة حتى النخاع.

ويظل هذا الموضوع مفتوحاً للتفكير والنقاش، ليس فقط في أوساط المتخصصين، بل في كل مكان حيث تُعرض الصورة ويُطرح السؤال: ما الذي نراه؟ وما الذي يريدون لنا أن نراه؟ لأن السينما، في جوهرها، ليست فقط مرآة للواقع، بل أداة لإعادة تشكيله.

سينما السلطة: مستويات الاختراق المتعدد

تُعد سينما السلطة من أبرز الأشكال الفنية التي تعكس العلاقة بين الفن والسياسة، وتُظهر كيف يمكن للصورة السينمائية أن تتحول إلى أداة للتوجيه والتأثير والتشكيل الفكري والثقافي. لا تكتفي سينما السلطة بعرض الواقع، بل تعيد صياغته بشكل يخدم تصورات السلطة الحاكمة، أو يعكس وجهات نظر القوى المهيمنة في المجتمع. وهذا يجعلها تمتلك قدرة استثنائية على إنتاج المعنى وتوجيه الانتباه الجماهيري نحو قضايا أو سرديات محددة. وتركز سينما السلطة على الرمزية، وتستغل الجانب الجمالي والفني لتمرير رسائل سياسية وايديولوجية بطريقة لا تبدو مباشرة، ما يمنحها نوعاً من الإقناع الضمني. وهي بذلك توظّف عناصر السينما كالصورة والصوت والإضاءة والتشخيص لخدمة مضامين تدعم وجهة نظر معينة أو تسهم في تعزيز سردية النظام أو المؤسسة المهيمنة. كما تتميز سينما السلطة بالتكثيف البصري، أي أنها غالباً ما تستخدم مشاهد ضخمة وأسلوب تصوير يحتفي بالقوة والهيمنة، مثل اللقطات واسعة النطاق، والموسيقى البطولية، وحضور الشخصية المركزية بصورة شبه أسطورية. وهذا الأسلوب يمنحها سلطة رمزية على المتلقي، ويخلق نوعاً من الإجلال والخضوع النفسي لما يُعرض أمامه. وتتسم هذه السينما بقدرتها على دمج عناصر التاريخ والخيال بشكل يجعل الحدث التاريخي قابلاً للتوظيف الأيديولوجي، فيُعاد سرد الماضي بشكل يخدم الحاضر الذي تريده السلطة أن يترسخ في أذهان الجماهير. وهناك جانب آخر يتعلق بتحديد من يُمثّل في الصورة ومن يُقصى منها، حيث تبرز سينما السلطة بانتقائيتها الفائقة في اختيار الشخصيات والأحداث التي تستحق الظهور، بينما يتم تهميش أو إقصاء سرديات أخرى لا تتماشى مع الخط السياسي أو الثقافي السائد. ولا تظهر هذه الانتقائية فقط في النص السينمائي، بل تمتد إلى عملية الإنتاج نفسها، من اختيار السيناريو والمخرج والممثلين، إلى توزيع الفيلم وعرضه في مهرجانات أو شاشات معينة. ولا تنحصر سينما السلطة أيضاً في نمط واحد، بل تتخذ أشكالاً متعددة، فقد تكون دعائية مباشرة، كما في الأفلام التي تنتجها الأنظمة الشمولية لتلميع صورتها، أو تكون أكثر ذكاءً وانسيابية، عبر حبكات درامية تبدو محايدة لكنها تحمل مضامين سلطوية مستترة. وتتمتع سينما السلطة من ناحية الأسلوب، بقدرة فائقة على التحكم في الإيقاع السردي، حيث يتم ضبط الأحداث وتصاعدها بما يتماشى مع الرسالة المراد تمريرها. كما يُستخدم الأداء التمثيلي والتصوير السينمائي لصياغة مواقف ومشاعر معينة لدى المتفرج. ولأنها تستهدف تشكيل الرأي العام، فهي غالباً ما تحرص على توجيه العاطفة الجماعية، فتبرز بطولات زائفة، أو تضخم المخاطر، أو تخلق العدو بصورة تبعث على الخوف والتماهي مع السلطة. كما أنها تستفيد من سلطة المؤسسات التي تدعمها، كالدولة أو السوق أو الإعلام، وتستند إلى تمويل قوي يتيح لها تقديم منتج فني متقن وجذاب من الناحية التقنية، ما يرفع من قدرتها على الانتشار والتأثير. وتمارس سينما السلطة سلطة مزدوجة؛ سلطة على المادة السينمائية نفسها، وسلطة على المتلقي، حيث توجه ما يجب رؤيته، وتحدد كيف ينبغي تفسيره، فتتحول بذلك إلى أداة فكرية لا تقل خطورة عن وسائل السيطرة التقليدية، بل تتفوق عليها بقدرتها على الاختراق السلس للعقل والعاطفة في آن واحد.

سينما السلطة : سينما القرار السياسي

تشكل شخصيات وأبطال سينما السلطة حجر الأساس في صناعة سردياتها وتوجيه رسائلها، فهم ليسوا مجرد عناصر سردية بل أدوات رمزية يتم من خلالها ترسيخ صورة معينة للبطولة، والقيادة، والولاء، والانتصار. وهذه الشخصيات غالباً ما تصاغ وفق تصورات السلطة عن نفسها وعن المجتمع الذي تحكمه، فيتحول البطل السينمائي إلى تجسيد مثالي للقيم التي تسعى السلطة إلى نشرها وترسيخها في الوعي العام. وفي كثير من الأحيان، لا يكتفي بطل سينما السلطة بكونه ناجحاً أو شجاعاً، بل يجب أن يكون مثالياً، طاهراً، متفوقاً أخلاقياً وجسدياً، وخالياً من الشوائب التي قد تضعف من رمزيته. إنه “الفرد الذي يتجاوز المألوف”، كما وصفه أحد النقّاد، “ليصبح مشروعاً جماعياً يمثّل الأمة أو القيادة في أبهى صورها”.

ويتخذ البطل في تجارب كثيرة، خاصة في الأنظمة الشمولية، هيئة الزعيم السياسي أو المقاتل المناضل الذي يذوب في حب الوطن أو الحزب أو الفكرة الكبرى، ويتم تظهيره بشكل يقترب من الأسطورة أكثر منه من الواقع. و قدّمت ليني ريفنشتال، المخرجة الألمانية، في فيلمها «انتصار الإرادة» شخصية أدولف هتلر كبطل خارق، تتابعه الكاميرا من زوايا منخفضة، وسط هتاف الجماهير وأعلام الحزب، لتصنع منه صورة القائد الملهم. وكتب أحد المؤرخين السينمائيين عن هذا الفيلم: “لم يكن الفيلم يروي قصة، بل كان يصنع أسطورة، يخلق إلهاً بصرياً وسط معبد الجماهير”.

وليس الزعيم وحده من يحتل موقع البطولة في سينما السلطة، بل تظهر شخصيات أخرى تُستخدم لتأكيد سردية النظام، مثل الجندي المخلص، أو الأم التي تضحّي من أجل الوطن، أو العالم الذي يخدم تقدّم الأمة. وهذه الشخصيات ليست حرة في مواقفها، بل هي انعكاس مباشر لقيم النظام الحاكم، وتُقدّم غالباً في سياقات تُظهر التهديد الخارجي، أو الانحراف الداخلي، كوسيلة لتعزيز التماهي مع السلطة ورفض الآخر. وفي هذا السياق، يُستخدم الخصم السينمائي كشخصية مضادة للبطل، لكنه ليس خصماً معقداً، بل يتسم غالباً بالشر المطلق أو الغباء أو الخيانة، مما يسهّل على الجمهور رفضه وتبرير كل أشكال العنف ضده.

في سينما السلطة الحديثة، خاصة في الدول الديمقراطية ذات الخطاب الإعلامي المتماسك، يظهر البطل بصيغة أكثر نعومة، لكنه يظل أداة ايديولوجية. وفي أفلام هوليوود، يُقدّم الجندي الأمريكي كمنقذ عالمي، يعيد النظام إلى مناطق منكوبة، بينما يظل الآخر – الشرقي أو الافريقي أو اللاتيني – في موقع الحاجة أو التهديد. وكتب الناقد جاك شاهين في كتابه “العرب في هوليوود”: “نرى العربي دائماً إما إرهابياً أو ثرياً غبياً، نادراً ما يظهر كبشر معقد ذي مشاعر وأخلاقيات”. وهذا يُظهر كيف يتم التحكم في صورة الآخر لتعزيز صورة البطل الذي تمثله السلطة.

وتُقدم المرأة في سينما السلطة أيضاً في صورة نمطية، فهي إما تابعة للبطل، تؤدي دور الزوجة أو الأم المثالية، أو تُستخدم كرمز تضحية، أو تُحصر في أدوار سطحية لا تعكس تعقيدها الحقيقي. ونادراً ما تكون المرأة بطلة مستقلة في هذا النوع من السينما، إلا إذا كانت تمثل سلطة بديلة تخدم النظام نفسه. ومن الأمثلة الملفتة، شخصية المرأة القوية في بعض الأفلام الصينية الممولة من الدولة، حيث تكون المرأة محاربة في خدمة الوطن، لكنها في النهاية تخضع للقيم التقليدية وتُعيد إنتاج منظومة السلطة لا تحدّيها.

من اللافت أن هذه الشخصيات لا تُبنى فقط من خلال الكتابة، بل يتم دعمها بصرياً وتقنياً عبر الكاميرا والإضاءة والموسيقى والمونتاج، فالبطل يصوَّر في لحظات النصر بحركة بطيئة، تُسلّط عليه الأضواء، تُرافقه موسيقى ملحمية، وتُظهره الكاميرا كما لو أنه في موقع تقديسي. وفي هذا السياق، كتب أحد النقاد: “البطل في سينما السلطة لا يختبر الهزيمة حقاً، بل يمر بلحظة ضعف سرعان ما تتحول إلى انتصار لتأكيد حتمية قوته”.

على الجانب الآخر، ظهرت شخصيات مناهضة لسينما السلطة، أبطالها مهمّشون، متعبون، معذبون، يعانون من الفقر أو القمع أو الخذلان، يفتقرون إلى الصورة المثالية، لكنهم يُجسّدون مقاومة حقيقية. وفي سينما أمريكا اللاتينية الثورية، يظهر العامل أو الفلاح كبطل يقاوم النظام، ليس لأنه خارق بل لأنه إنساني. وكذلك في السينما الفلسطينية، تتحول شخصية الطفل أو المرأة إلى بطل يحمل الرواية المضادة، ويكشف ظلم الاحتلال، ويقدّم سرداً مختلفاً عن البطولات الرسمية.

ولا تعبّر شخصيات وأبطال سينما السلطة فقط عن الخيال، بل تكشف طبيعة العلاقات بين الفن والسلطة، وتُظهر كيف يُمكن توظيف الصورة لتشكيل الوعي وتوجيه الشعور العام. وبين البطل الأسطوري والعدو الممسوخ، وبين الأم المثالية والخصم البائس، تُبنى العوالم السينمائية التي تعكس طموحات السلطة وخوفها معاً. وكما يقول المخرج كوستا غافراس: “كل لقطة هي قرار سياسي، حتى عندما نظن أنها مجرد فن، فإن ما يُعرض وما يُخفى هما وجهان للسلطة نفسها”.

سينما السلطة: تحويل الفيلم إلى درس ايديولوجي

تُعد سينما السلطة تجلياً فنياً معقّداً للعلاقة بين الصورة والقوة، فهي تتجاوز كونها ممارسة سردية لتصبح أداة ذات طابع تركيبي يشتبك مع مختلف الأبعاد السياسية والأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والدلالية. وعلى المستوى السياسي، ترتكز سينما السلطة على إعادة إنتاج الخطاب الرسمي وترسيخ شرعية النظام الحاكم، إذ تُستخدم الأفلام كوسيلة للدعاية، لإبراز منجزات السلطة وتجميل سياساتها ومحو المظاهر المعارضة أو المزعجة من المشهد العام. ويُلاحظ أن هذه السينما تُعيد صياغة التاريخ. وتختار سرديات محددة تبرر وجود السلطة وتؤطرها بوصفها ضرورة تاريخية، لا مجرد خيار سياسي. وتُستخدم فيها الرموز الوطنية كالراية والنشيد والشخصيات السياسية الكبرى كأدوات لاستدعاء الحس الوطني والانتماء الجمعي في خدمة أهداف سياسية محددة.

وتُسهم سينما السلطة على المستوى الأيديولوجي، في ترسيخ منظومة قيم محددة ترتبط غالباً برؤية الدولة لنفسها والعالم. فهي تعيد إنتاج تصورات معينة عن “الصحيح والخطأ”، “الصديق والعدو”، “الوطني والخائن”، ضمن منطق ثنائي مغلق يمنع المساحة الرمادية في التفكير. كما أنها تُقدّم الايديولوجيا في شكل جمالي مقبول، يجعل من الأفكار الشمولية أو الإقصائية قابلة للهضم جماهيرياً. وفي هذا الإطار، تلعب الشخصيات الرمزية والأحداث البطولية دوراً في ترسيخ هذه المنظومة، حتى يتحول الفيلم إلى درس أيديولوجي مغلف بالإثارة والعاطفة، حيث تُلقّن القيم أكثر مما تُناقش، ويُعزّز الولاء أكثر مما يُشجّع على التفكير النقدي.

على الصعيد الاجتماعي، وتؤدي سينما السلطة على الصعيد الاجتماعي، دوراً في إعادة هندسة صورة المجتمع كما تراه السلطة أو ترغب في أن يُرى. فهي تُعيد إنتاج الهوية الجماعية وفق نماذج مدروسة، وتعمل على ترسيخ سلوكيات وقيم معينة، من خلال النمطية في تمثيل الفئات الاجتماعية، وتضخيم حضور طبقات معينة، وتهميش أو إقصاء الطبقات المهمّشة أو المعارضة. وغالباً ما تكرّس هذه السينما صورة الرجل القوي أو المرأة الخاضعة أو الأسرة المثالية، وتُقدّم نماذج مضادة للفوضى والاختلاف والانحراف، بما يخدم رؤية اجتماعية تُعلي من الاستقرار والطاعة والنظام. كما يُلاحظ أن هذه الأفلام غالباً ما تتجاهل قضايا العدالة الاجتماعية أو تعيد تفسيرها بطريقة تبريرية، فتُقدّم الفقر كمصير لا يُناقش، أو تَصوِّر التفاوت كجزء من منظومة نجاح لا ظلم.

وترتبط سينما السلطة اقتصادياً، بجمول من أطراف رسمية أو شبه رسمية، ما يجعلها أداة اقتصادية بامتياز تُستخدم لتحريك الصناعات الإبداعية ضمن رؤية السلطة. ويُتيح هذا التمويل الضخم لها التفوق التقني والبصري، ويجعلها في موقع الهيمنة على سوق العروض والمهرجانات والتوزيع، ما يؤدي إلى تغييب السينما المستقلة أو المعارضة التي لا تملك نفس القوة المالية. كما أن هذه السينما تروّج لاستهلاك ثقافي معيّن، وتُعيد تشكيل الذوق العام ليصبح متماهياً مع القيم السلطوية، ما يجعل الاقتصاد الثقافي نفسه جزءاً من الماكينة السياسية. وفي هذا السياق، تصبح صناعة الأفلام ليست فقط من أجل الربح، بل من أجل الهيمنة الرمزية التي تدفع الجمهور للاستهلاك المُوجّه والصورة المُسيطر عليها.

وتُمارس سينما السلطة نفسيّاً، نوعاً من التلاعب العاطفي، إذ تُخاطب الجمهور بلغة الانفعالات لا العقل، وتستدعي الخوف والأمل والفخر والانتماء بطريقة ممنهجة. فهي تخلق حالة من التماهي الجماعي مع السلطة، من خلال خلق أعداء وهميين أو أبطال خارقين، وتدفع الجمهور إلى الشعور بالحاجة إلى حماية النظام السياسي بوصفه حامياً للوجود والمعنى. ويُلاحظ في الكثير من الأفلام أن البطل لا يُمثّل نفسه فقط، بل يُمثّل النظام والدولة والمصير الجماعي، ما يجعل من مشاهد الانتصار أو الهزيمة لحظة نفسية جماعية لا فردية. وفي هذا السياق، تستخدم سينما السلطة أدوات مؤثرة كالموسيقى الملحمية، والتصوير البطولي، والمونتاج السريع، لتوجيه الحالة الشعورية لدى المتفرج، فيتحوّل الفيلم إلى تجربة وجدانية تُعزّز الولاء والانتماء والخوف والتقديس.

وتحتفي سينما السلطة، من ناحية الدلالات الرمزية، بمجموعة من الرموز التي تعمل كخطاب خفي يُمرّر الرسائل دون تصريح مباشر: الراية، الأسلحة، الزي العسكري، الأماكن الرسمية، الشخصيات التاريخية، وحتى الألوان، وكلها عناصر تُستغل لبناء فضاء رمزي يُغذّي الرسالة السياسية. وغالباً ما تُوظّف هذه الرموز في لحظات مفتاحية داخل الفيلم، لتُحدث الأثر المرجو في وجدان الجمهور، فتصبح الرؤية السياسية جزءاً من الصورة البصرية. كما تعمل على تعزيز قيمة السلطة بوصفها مرادفاً للنظام والجمال والانتصار. وتُصبح الصورة أداة لتكثيف المعنى وتبسيطه في آن، فتُقدّم السلطة كقدر تاريخي لا يُناقش، وتُحاصر كل ما هو مضاد أو مختلف ضمن رمزية العدو الفوضوي أو المُخرّب.

وتعمل سينما السلطة على مستويات متداخلة ومتشابكة، وتُنتج خطاباً مركّباً يستند إلى الجمال الفني ليخدم النفوذ السياسي. وهي تمارس سلطة خفية تُمكنها من تشكيل الوعي دون أن تُعلن ذلك صراحة، فتبدو كفنٍّ بريء فيما هي ممارسة هيمنة رمزية مكتملة. وبين الإبهار البصري والتوجيه النفسي، وبين الرمزية المشحونة والتوجيه الأيديولوجي، تستمر سينما السلطة في إعادة إنتاج ذاتها، مُحافظةً على موقعها في قلب الصراعات الثقافية والسياسية المعاصرة.

سينما السلطة : تعزيز حضور السلطة

تُعد الهوية البصرية لسينما السلطة من أبرز أدواتها الرمزية التي تُسهم في ترسيخ الخطاب السياسي والفكري من خلال الصورة، فهي ليست مجرد عناصر تقنية أو جمالية بل بنية متكاملة من الرموز والدلالات التي تُحدّد كيف يُرى العالم داخل الفيلم. وتتشكّل هذه الهوية من مجموعة عناصر بصرية متكررة مثل الألوان، زوايا الكاميرا، الإضاءة، الرموز الوطنية، الأزياء، والديكور. وتُستخدم بشكل مقصود لتكوين مناخ بصري يُعبّر عن السلطة ويعزّز حضورها الرمزي. وتُستخدم الألوان في سينما السلطة بطريقة مدروسة، حيث تهيمن ألوان مثل الأحمر، الأسود، الذهبي والأزرق الملكي، لتعكس القوة والسيطرة والهيبة. وغالباً ما تُوظّف هذه الألوان في خلفيات المشاهد التي تتناول شخصيات قيادية أو أحداث وطنية، لتصبح جزءاً من سردية التمجيد والبطولة. وتظهر زوايا الكاميرا بشكل يعطي الشخصيات المركزية سلطة بصرية، فنراها من الأسفل في لقطات تُعزز حجمها الرمزي وتُضفي عليها هالة تفوق الإنسان العادي. كما تُستخدم اللقطات الواسعة لتأكيد السيطرة على المكان والمساحة وكأن البطل أو النظام يحتل المشهد كاملاً. وتتجه الإضاءة في سينما السلطة نحو إبراز الشخصيات بوضوح، وإضفاء طابع ملحمي عليها، وغالباً ما يتم تسليط الأضواء على القادة في لحظات الخطابة أو النصر، في حين تُغمَر الشخصيات المعارضة أو المهمشة بظلال تعكس ضعفها أو تهديدها. وتُستخدم الأزياء كرموز للرتب والقوة والانتماء، وتظهر شخصيات السلطة بلباس موحد أو رسمي يضفي جمالية صارمة تؤكد التنظيم والانضباط، في مقابل الشخصيات المعارضة التي تُقدَّم غالباً بملابس غير متناسقة أو تفتقر إلى الهوية. وتلعب الرموز الوطنية مثل الراية أو النشيد أو المعالم التاريخية دوراً أساسياً في تشكيل الهوية البصرية، فتظهر في مشاهد النصر أو الاستعراض أو المواكب الرسمية لتعزيز شعور الانتماء وربط السلطة بالوطن، ما يجعل الهوية البصرية أداة لتطبيع العلاقة بين السلطة والشعب. كما أن الحركة داخل المشهد تُنظَّم بطريقة تمنح البطل مركزية مطلقة في الفضاء البصري، سواء من خلال تكرار ظهوره أو جعل الشخصيات الأخرى تدور حوله وكأنها عناصر مساندة في سردية أكبر، وبالتالي فإن الهوية البصرية في سينما السلطة ليست مجرد زينة بل بنية رمزية تُكرّس المعاني وتُرسّخ السلطة وتُوجه الإدراك الجمعي نحو رؤية محددة ومسيطر عليها.

سينما السلطة: ترسيخ مفاهيم الطاعة والهيمنة

تقوم سرديات سينما السلطة على بناء تصور معين للواقع يخدم أهداف المؤسسة أو النظام الحاكم أو الأيديولوجيا السائدة، وهي لا تكتفي بسرد قصة بل تصوغ رؤية للعالم تُرسّخ مفاهيم الطاعة والانتصار والهيمنة. وتقوم هذه السرديات غالباً على حبكة تصاعدية تقود إلى تثبيت السلطة بوصفها المنقذ أو البطل، حيث يتم تصويرها كقوة ضرورية لضمان الأمن والنظام. وتبدأ القصة في العادة من أزمة أو تهديد، خارجي أو داخلي، ثم يظهر البطل المرتبط بالسلطة ليعيد ترتيب الفوضى ويحقق الاستقرار، وهو نمط متكرر يهدف إلى إقناع الجمهور بأن غياب السلطة يوازي انهيار المجتمع. وتعتمد هذه السرديات على ثنائية الخير والشر بشكل صارم، بحيث يُقدّم المعارض أو المختلف كشخصية مُخرّبة أو خائنة، بينما يُظهر المتماهي مع السلطة كمثال للفضيلة والوطنية.

ومن أبرز تقنيات سرد سينما السلطة الاعتماد على التكرار الرمزي واللغة العاطفية والمشاهد البطولية، حيث يُعاد استخدام صور الزعيم والراية والنشيد والمواجهات المصيرية لترسيخ الشعور الجمعي بالانتماء والتقديس. وتُستخدم العائلة أو المرأة أو الطفل كرموز إضافية لتضخيم الأثر الإنساني للسردية، فتُظهَر السلطة كراعٍ للضعفاء ودرعٍ للحياة اليومية. كما أن نهاية القصة غالباً ما تُقدّم كخاتمة مغلقة، لا تترك مجالاً للتساؤل أو التفكير النقدي، بل تؤكد على حتمية السلطة وصواب تدخلها.

أما الحركات السينمائية داخل سينما السلطة، فهي تتنوع بين دعائية مباشرة مثل الأفلام العسكرية ، وأخرى أكثر نعومة تتسلل عبر الدراما أو الكوميديا لتقديم الرؤية الرسمية بشكل غير مباشر. وقد ظهرت في مختلف السياقات العالمية نماذج لهذه الحركات، مثل سينما الاتحاد السوفيتي التي أنشأت نمطاً يُظهر العامل والفلاح في صورة المساهم في بناء الوطن، وسينما ألمانيا النازية التي أنتجت أفلاماً ضخمة تؤلّه هتلر وتُصور الحزب النازي بوصفه مشروعاً إنقاذياً تاريخياً. وظهرت في الدول الغربية، أفلام الحرب التي تُقدّم الجندي كبطل عالمي يفرض النظام ويُعيد ترتيب العالم وفق القيم الغربية. كما أن بعض المهرجانات أو القنوات الرسمية تسهم في دعم هذه الحركات عبر تمويل الأفلام أو اختيار الأعمال التي تتماشى مع الخطاب السياسي السائد.

في المجمل فإن سرديات وحركات سينما السلطة تُشكّل منظومة متكاملة من السرد الرمزي والتقني، وتُسهم في بناء واقع مُصمَّم ومسيطر عليه يُوجّه الإدراك ويُكرّس التبعية بوسائل تبدو فنية لكنها محمّلة بالدلالات السياسية.

سينما السلطة: وسيلة للتعبئة الايديولوجية

في تحليل نماذج سينما السلطة يمكن الوقوف أمام فيلمين يشكلان نموذجين صارخين لاستخدام السينما كأداة للتأثير السياسي وتشكيل الوعي الجمعي وهما فيلم «انتصار الإرادة» للمخرجة ليني ريفنشتال وفيلم «بيرل هاربر» من إنتاج هوليوود إذ يمثلان على نحو متباين شكلين من التوظيف السينمائي يخدمان السلطة من خلال السردية والصورة.

ويُعد فيلم «انتصار الإرادة» الذي صدر عام 1935 في ألمانيا النازية من أكثر الأفلام الايديولوجية تأثيراً في التاريخ الحديث إذ أن المخرجة ليني ريفنشتال لم تكتف بعرض المؤتمر السنوي للحزب النازي بل قامت ببناء أسطورة بصرية لهتلر بوصفه زعيماً ملهماً ومخلصاً للأمة الألمانية. ويظهر الزعيم هتلر في افتتاح الفيلم وهو يحلق بطائرته فوق مدينة نورمبرغ ويهبط وسط حشود منتظرة تعلوها الحماسة الوطنية. وهذا المشهد وحده يعكس تأليه القائد ووضعه في موقع شبه إلهي. وتستخدم الكاميرا زوايا منخفضة ومؤثرات ضوئية لجعل حضوره مركزياً حيث يقول أحد المعلقين على الفيلم” لقد جعلت ريفنشتال من المؤتمر طقساً دينياً ومن الزعيم كائناً يتجاوز الواقع “.

ويظهر هتلر في الفيلم محاطاً بجنود منظمين وسكان مبتهجين بينما يقدم خطابات تؤكد على وحدة الأمة وتفوقها يقول في أحد خطاباته التاريخية نحن شعب واحد قوة واحدة وإرادة واحدة فيتم تجسيد البطل السينمائي هنا كممثل مباشر للسلطة التاريخية والأخلاقية ولا مكان فيه للضعف أو التناقض إذ أن السردية التي تحيط به تتجاهل الأبعاد الإنسانية وتُضخم الرموز العسكرية والوطنية مثل الرايات والنسور والموسيقى الملحمية.

في المقابل يقدم فيلم «بيرل هاربر» للمخرج مايكل باي، وهو صورة أكثر نعومة لكنها لا تقل سلطوية إذ أُنتج في الولايات المتحدة عام 2001 وأخرج بطريقة تُحاكي المشاعر الوطنية وتُعيد كتابة الحدث التاريخي من منظور أمريكي يُجسّد البطولة والانتصار والضحية في آن واحد. وتدور القصة حول الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربر. ويُظهر الفيلم الجنود الأمريكيين كبشر شجعان وعاطفيين وأخلاقيين بينما تُقدَّم اليابان كعدو غادر ومباغت. وتُستخدم في الفيلم تقنيات سينمائية تضفي على الحدث طابعاً مأساوياً ملحمياً وتُركّز الكاميرا على المعاناة الإنسانية للجنود والمدنيين الأمريكيين ما يخلق تماهياً نفسياً مع البطولة الأمريكية.

ويُقدم أبطال الفيلم مثل الملازم راف وأصدقاؤه كمثال على التضحية والشجاعة، ويُبرر التدخل العسكري الأمريكي لاحقاً على أنه حق مشروع إذ يقول أحد الشخصيات في لحظة حاسمة:” لقد حاولوا تدميرنا لكننا لن ننهزم”. ويختزل هذا الخطاب الحدث في صورة ثنائية تؤكد على شرعية السلطة من خلال مشاهد الانتصار والخطابات العاطفية والموسيقى المؤثرة التي تُعيد إنتاج الخطاب السياسي في قوالب سينمائية جذابة.

كلا الفيلمين على اختلاف السياقات والأنظمة يبرزان كيف تُستخدم السينما كدعاية ولصياغة سردية تعزّز القيم التي تخدم السلطة يُقدَّم البطل كرمز للصواب والشرعية. ويُحذف من الصورة كل ما يثير التساؤل أو يقترح رواية بديلة. إنهما نموذجان لتجسيد سينما السلطة التي توظف الصورة والكلمة والموسيقى والبطل لصياغة رؤية متماسكة ومؤثرة عن العالم حيث لا تكون السينما مجرد فن بل خطاباً سلطوياً بصرياً يعمل على تشكيل العاطفة والموقف الفكري للجمهور.

هذه النماذج تكشف كيف يمكن للبطولة السينمائية أن تتحول إلى وسيلة للتعبئة الأيديولوجية وكيف يصبح الفيلم في ظل السلطة مرآة مشروطة تُظهر ما تريد السلطة أن يُرى لا ما هو موجود حقاً.

سينما السلطة: صياغة الرسائل السياسية وتجميل السلطة والتنميط الرمزي

يُعد البعد الجمالي والبصري في سينما السلطة من أكثر الجوانب تأثيراً في تشكيل الوعي الجمعي وصياغة الرسائل السياسية والايديولوجية عبر عناصر الصورة السينمائية. فهو لا يهدف فقط إلى الإبهار التقني، بل يُستخدم لتجميل السلطة، وإضفاء طابع رمزي على القائد أو النظام، وترسيخ حضور القوة في الفضاء البصري. وتُوظَّف عناصر مثل الإضاءة، وزوايا الكاميرا، والتصوير البطيء، والموسيقى التصويرية، والديكور، والألوان بشكل يعكس هيمنة السلطة ويُشيد برموزها. لا يتوقف البعد الجمالي على التناسق البصري بل يمتد ليصبح أداة للإقناع والتقديس، حيث تُقدَّم السلطة في صورة مثالية، محمية من الشوائب، تُحاكي الأسطورة أكثر من الواقع.

في فيلم «انتصار الإرادة» للمخرجة ليني ريفنشتال، يُوظَّف البعد البصري بشكل مكثف لتقديم الزعيم النازي أدولف هتلر في صورة شبه إلهية. ويُفتتح الفيلم بلقطة جوية لطائرته وهي تحلق فوق المدينة، ثم تهبط وسط حشود منظمة بشكل هندسي دقيق. وتُستخدم الإضاءة لتسليط الهالة على وجه الزعيم، وزوايا الكاميرا تأتي من أسفل لتعزيز سلطته البصرية، وتصاحب الموسيقى الملحمية ظهوره كما لو أنه لحظة تجلي. ويكتب أحد النقّاد أن “رفينشتال لم تصنع فيلمًا بل بنت معبداً بصريًا للزعيم”، مما يكشف كيف يتحول الجمال إلى أداة أيديولوجية تُؤلّه الزعامة وتُشرعن حضورها.

أما في فيلم «The King.s Speech » أو ” خطاب الملك”،(2010) للمخرج توم هوبر رغم كونه دراميًا وتاريخيًا، إلا أنه يحمل بُعدًا بصريًا يُعزّز حضور السلطة الملكية بطريقة أنيقة ومتعاطفة. ويأتي تصوير الأماكن الملكية بإضاءة ناعمة وألوان هادئة، تُظهر فخامة النظام دون استعلاء فج. ويُقدّم البطل، الملك جورج السادس، بلباس رسمي أنيق في مشاهد مُصممة بعناية لإظهار التوتر الداخلي دون فقدان الهيبة. وتنقل الكاميرا تفاصيل وجهه بلقطات قريبة تبعث على التعاطف، بينما يُصوَّر مساعده من خلفيات أكثر ظلمة كرمزية لاختلاف الطبقة. وفي إحدى اللحظات، يُقال له: “أنت صوت الأمة، حتى لو كنت ترتجف”، مما يُضفي على السلطة بعداً إنسانياً لكنه يظل مُحصّناً بصريًا في إطار الفخامة والاحتفاء.

يُظهِر هذان النموذجان، كيف يمكن للبعد الجمالي والبصري في سينما السلطة أن يتخذ شكلاً صريحًا ومباشرًا كما في «انتصار الإرادة»، أو شكلاً ناعماً ومتقنًا كما في «خطاب الملك»، ليصبح جزءاً من استراتيجية بصرية تسعى لترسيخ السلطة عبر الجمال والإبهار والتنميط الرمزي.

تشكل سينما السلطة أداة رمزية حيوية تساهم في إعادة إنتاج الخطاب السياسي وترسيخ صور مثالية للواقع تخدم مصالح الأنظمة الحاكمة. من خلال توظيف عناصر جمالية وسردية قوية، تتحول الصورة السينمائية إلى وسيلة لتوجيه الوعي وتطبيع السلطة وتكريس رؤيتها للعالم. في ظل تداخلاتها النفسية والاجتماعية والأيديولوجية، تظل سينما السلطة ممارسة معقّدة تتطلب قراءة نقدية واعية تكشف خلفياتها وتفكك رموزها. إنها ليست مجرد فن بصري، بل خطاب سلطوي ناعم يعمل على التأثير العميق والمستمر في الإدراك الجماعي، ما يجعل من تحليلها ضرورة لفهم العلاقة بين الصورة والسلطة في سياقاتها المتعددة

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق الرئيس السيسي يصدق على ربط الحساب الختامي لموازنات 6 هيئات حكومية
التالى فكر قبل القرار الأسنان توجه تحذير شديد لطلاب الثانوية العامة بعد النتيجة