في حوار لم ينشر بعد إجرائه إلا بما يزيد عن ثلاثين عاما، قال السياسي الراحل المهندس المغربي أبراهام السرفاتي إن “إطلالته الأولى” على “المقاومة الفلسطينية” كانت في “يونيو 1967، وقبلها كنت مناضلا في الحركة الوطنية المغربية، وعلاقتي بفلسطين كانت من خلالها، ولم تكن لي علاقة مباشرة بالمقاومة الفلسطينية التي بدأت تبرز في سنة 1960، ثم أُعلنت في سنة 1965”.
وتابع: “إطلالتي تلك في سنة 1967 جاءت من خلال بيانات ‘فتح’ في فترة كانت الحركة الوطنية المغربية قد انزلقت في تصور عنصري للمشكلة الصهيونية، ولم تكن تفرق بين اليهودية والصهيونية. لقد كانت الحركة الوطنية الفلسطينية هي الأولى التي فرقت بين الصهيونية واليهودية، ومن وقتها سعيت للالتقاء بها. ولا أنسى أول مناضل فلسطيني التقيت به في الرباط وكان اسمه ‘أحمد’، ثم التقيت بمسؤولين من حركة ‘فتح’ في الرباط أيضا”.
جاء هذا في حوار نشرته “مجلة الدراسات الفلسطينية” أجراه مع السرفاتي حسان البلعاوي سنة 1991، خلال فعاليات “حفل الإنسانية” بباريس، وهو حوار أُجري في الأصل لمجلة “فلسطين الثورة” التي كانت قبل توقّفها عن الصدور سنة 1994 “المجلة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية”، ومن بين ما قاله السرفاتي في هذا الحوار: “علاقتي بالقضية الفلسطينية هي علاقة في الدم، فالشعب الفلسطيني مضطهد حتى من قبل سنة 1948، والاعتداء عليه جرى ويجري باسم الديانة اليهودية، وهذا ما لا يمكنني أن أقبله بأي شكل من الأشكال. فوالدي كان مؤمنا بالدين اليهودي، وكان يؤمن بعمق الديانة اليهودية القائمة على احترام الإنسان واحترام حق الشعوب، وأنا كبرت وتربيت على احترام حق الإنسان والشعوب”.
وتابع: “الشعب المغربي كان واقعا تحت نير الاحتلال الفرنسي، كما أن سائر الشعوب تعاني جراء الاحتلال، بمن فيها الشعب الفلسطيني الذي يعاني عدوانا من طرف الصهيونية العنصرية التي تتاجر بعذابات اليهود في أوروبا. وأنا كإنسان وكيهودي ومغربي لا يمكن أن أقبل بهذا الظلم”.
وزاد السرفاتي: “حين دُعيت إلى حضور ملتقيات تضامن مع المقاومة الفلسطينية في عمّان في بداية سنة 1970، أحسست بالفخر والسعادة، ولا سيما أنني التقيت بعدد من القيادات الفلسطينية، وتعرفت إلى أوضاع الشعب الفلسطيني في الأردن، وخصوصا في مخيم الوحدات”.
وحول “الهوية الفلسطينية” التي منحه إياها “المجلس الوطني الفلسطيني” سنة 1976 وهو في السجن، قال السرفاتي: “كنت في عزلة تامة ولم أعلم بذلك إلا بعد أعوام، وكان ذلك أكبر وسام في حياتي”.
وشهد السرفاتي على أثر الفكرة الناشئة في أوروبا، المسمّاة “الصهيونية”، على تاريخ المغرب المعاصر: “في سنة 1967، كانت الطائفتان المسلمة واليهودية في المغرب منقسمتَين بشدة وبشكل محزن للمرة الأولى في تاريخ المغرب، وكنتُ اليهودي المغربي الوحيد الذي اتخذ موقفا ضد إسرائيل وضد الصهيونية، وربما الوحيد بين يهود الشرق الذين يختلفون عرقيا وثقافيا عن اليهود الغربيين، ويتم استغلالهم وقمعهم بشكل بشع من طرف المؤسسة الصهيونية الحاكمة ورأس المال اليهودي في العالم المرتبط بالإمبريالية الأمريكية”.
وشرح أبراهام السرفاتي أن “الصهيونية في الأساس هي عبارة عن أيديولوجيا جاءت من أوروبا الوسطى حيث مورس القمع هناك ضدهم، وهذه الأيديولوجيا أصبحت عنصرية تمارس القمع والاحتلال في فلسطين. لكن هذه الأيديولوجيا الصهيونية غريبة تماما عن اليهودية العربية التي لم تلقَ قط الاضطهاد مثلما حدث لليهود الأوروبيين. وقد جرى اقتلاع اليهود العرب، وخصوصا المغربيين، من بلادهم، وذلك من خلال عملية مشتركة بين البورجوازية الحاكمة في هذه البلاد والحركة الصهيونية العالمية، وجُلبوا إلى فلسطين ليكونوا وقودا ضد الشعب الفلسطيني، وعمالا مياومين تستغلهم الرأسمالية التي تتحكم في دولة إسرائيل”.
وحول “مفاوضات مدريد” التي كانت قد بدأت آنذاك (1991)، عبّر السرفاتي عن تخوّفه من “أن تؤدي هذه المفاوضات إلى انخراط المقاومة الفلسطينية في حل لا يكون في الحقيقة حلا فعليا”، مردفا: “أنا شخصيا أفضل ألا يشارك الطرف الفلسطيني في هذه المفاوضات قبل وضوح الأمور، وإحداث تغيير ما في ميزان القوى. لكن بما أن المحادثات بدأت على الرغم من كل شيء، فإنها سمحت للطرف الفلسطيني بأن يعرٍّف الرأي العام أكثر بالقضية الفلسطينية، وأن يطالب بشكل أكثر فاعلية بإيقاف بناء المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة منذ سنة 1976، وتفكيكها إن أمكن، وعدم إصدار قوانين عنصرية جديدة. وأعتقد أن هذا هو الحد الأدنى الذي من دون تحقيقه ليس هناك أي معنى للمفاوضات”.
ومن بين ما عبر عنه السرفاتي في الحوار، أسفه لأن “وضع الحركة الوطنية العربية ازداد سوءا بعد حرب الخليج، لكن وضع الحركة كان كارثيا منذ عدة سنوات. أتذكر في سنة 1982 خلال الغزو الإسرائيلي للبنان، أنه لم تخرج تظاهرة واحدة في العالم العربي للتضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني (…) الطريق طويل، وعلينا كمناضلين عرب أن نشقّه كي تساند الشعوب العربية المقاومة الفلسطينية بشكل فعلي. كما أن على المقاومة الفلسطينية ألا تراهن فقط على الأنظمة، بل على الجماهير أيضا، والانتفاضة الفلسطينية في هذا الشأن هي عمل بطولي يجب البناء عليه، ويجب العمل أيضا على تناقضات الكيان الصهيوني. ونحثّ الرأي العام الغربي عامة، والحركات اليسارية خاصة، على التضامن مع القضية الفلسطينية”.
ثم استرسل قائلا: “أعتقد أن موقف الحركات اليسارية في أوروبا جيد بصورة عامة، لكن يجب تطويره، وفي هذا الشأن أود أن ألفت نظر إخوتنا الفلسطينيين إلى إحدى العقبات التي تعوق تطوير حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني في فرنسا، وهي أن هذه الحركة تجد نفسها مضطرة منذ فترة إلى عدم وضع الإيديولوجيا الصهيونية موضع الشك. وكثير من المناضلين الفرنسيين مع فلسطين قالوا لي: ‘نحن لا نهاجم الصهيونية لأن منظمة التحرير الفلسطينية قالت لنا إنه في التكتيك الحالي يجب عدم مهاجمة الصهيونية’. وأعتقد أن هذا خطأ جسيم؛ إذ يجب علينا التفريق بين اليهودية والصهيونية، وهذا واضح تماما ومنذ فترة طويلة، وعلينا الاستمرار في النضال الأيديولوجي والسياسي ضد الصهيونية، حتى ولو كانت هناك صعوبات في البداية في بلد مثل فرنسا؛ يجب إظهار الحقيقة، وهي أنه ما دامت إسرائيل دولة صهيونية، فإنه لا يمكن صنع سلام حقيقي في الشرق الأوسط”.