الجديد في حياة الإنسان يثير دائمًا الإعجاب بقدر ما يثير المخاوف المشروعة، وهذا تمامًا ما يحدث اليوم مع الطلاب والباحثين الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي في أبحاثهم ودراساتهم. فبحسب ما أسمع من حولي، يرى كثيرون أن في هذا الأمر خطرًا على التفكير؛ لأنه يُغري بالاعتماد على إجابات جاهزة، ويُسهّل الانتحال، ويؤدي إلى تراجع مهارات أساسية مثل البحث والتحليل والتدوين. لكن، ماذا لو تم استخدام الذكاء الاصطناعي بالشكل الصحيح؟ ألا يمكن أن يصبح أداة قيّمة في البحث العلمي؟ المسألة – في نهاية المطاف – ليست في الأداة ذاتها، بل في طريقة استخدامها.
الذكاء الاصطناعي يُوصَف اليومَ بالثورة الرقمية، مقارنةً بالثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. ونحن نستخدمه جميعًا في حياتنا اليومية في مجالات مختلفة من دون أن نلقي له بالًا، إلا حين يتعطل فنهرع سريعًا لإصلاحه، بعدما أصبح صعبًا علينا الاستغناء عنه. فالذكاء الاصطناعي حاضر من حولنا في كل زمان ومكان: يُشغّل مختلف الأجهزة المنزلية الكهربائية، والهواتف المحمولة، ويُستخدم في المعاملات البنكية والمالية والتجارية، بل هو حاضر في السيارات وفي غيرها من مجالات الحياة. فلماذا لا يُستخدم في الدراسة والتعليم والبحث العلمي، وهو في الأصل أحد ثمار البحث العلمي نفسه؟
إذا كان من بين أهم أهداف البحث هو توسيع آفاقه، وحسن استغلال الوقت وتوفيره، وتحسين الصياغة عند التدوين وغير ذلك، فما المانع؟ المهم دائمًا أن يبقى العقل البشري هو المتحكم في الأداة، وأن تحضر الأفكار الشخصية، وأن يتفوّق التحليل العميق على جمع المعلومات السطحية. وهذا أمر ينبغي أن نُدرّب عليه أبناءنا وبناتنا منذ الصغر – في البيت ولا سيما في المدرسة وحتى الجامعة – ما دام استخدام الذكاء الاصطناعي بات أمرًا لا مفر منه.
أما البحوث الأكاديمية – موضوع هذه الورقة – فهي تمرّ على فحص لجان علمية متخصصة تقرأها وتناقشها مع الباحث. فهل تنطلي عليها الحِيَل؟ بل تظهر مهارات الباحث الحقيقية من خلال المناقشة الشفوية، حيث يظهر عمق التفكير، وتبرز القدرة على الحِجاج والدفاع عن الاختيارات وعن التحليل والنتائج. وهذه اللحظة كفيلة بكشف أي عمل سطحي أو مصطنع، سواء بالذكاء الاصطناعي أو بغيره. والحُكم الصحيح يصدر في النهاية بناءً على ذلك.
ويبقى السؤال مطروحًا: ما الفرق بين الباحث الجاد الذي يُحسن استخدام الذكاء الاصطناعي كما ينبغي وباعتدال، والباحث الذي يُصرّ على الطرق التقليدية القديمة؟ الباحث الذي يتقن التعامل مع الذكاء الاصطناعي يستطيع توفير الوقت، والوصول بسرعة إلى مصادر متنوّعة (قديمة وحديثة ومُحيّنة)، ويطّلع على النقاشات والدراسات المنشورة في المجلّات المتخصصة من مختلف أنحاء العالم من دون أن يغادر مكتبه. كل ذلك مع القدرة على التمحيص والتدقيق، وهو يستحضر ويُحضّر للدفاع عن عمله أمام لجنة التحكيم.
أما الباحث الذي يستغني عن الاستعانة بهذه الأداة، فمع أنه يملك نفس الجدية والحرص، إلا أنه يمضي وقتًا أطول بكثير، وقد يفوته الاطلاع على مصادر جديدة ومعلومات محيّنة، ثم يقضي ساعات طويلة في ترتيب مواد بحثه وصياغتها كما يجب.
في النهاية، الأداة ليست هي التي تحدد قيمة البحث، بل جودة المضمون ومدى تمكُّن الباحث منه. وهذا ما يظهر بوضوح خلال المناقشة أمام اللجنة العلمية. الذكاء الاصطناعي قادر على تسريع البحث وتوسيع مداه، وتحسين جودة عرضه وصياغته، لكن هذا كله يعتمد على مهارة الباحث نفسه، وجديته، ووعيه.
وفي نهاية المطاف، لا خوف من هذه الثورة الرقمية – لا في البحث العلمي ولا في غيره. بل تَوَفُّر الذكاء الاصطناعي مع وفرته هو بالأحرى نعمة وفرصة ينبغي حسن اغتنامها لتطوير البحث وتعزيز جودته. لكن شريطة أن نُعلّم أبناءنا وبناتنا حسن استغلاله منذ الصغر – في البيت ولا سيما في المدرسة – ما داموا يعيشون لا محالة به وفيه، بل ما داموا سيجدونه يحيط بهم أكثر فأكثر في كل جوانب حياتهم لتيسيرها وتجويدها. فهو أمر لا مفر منه. فلنتوكل على الله، ونتفاءل فيه بالخير، فيؤتينا سبحانه فيه خيرًا من فضله.