حين يُرجئُ الوطنُ شعرهُ… لأنَّ أحدهم “مشغول”
أحدث إعلان جمعية أصدقاء المعتمد بشأن تأجيل الدورة السادسة والثلاثين من المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث، والذي كان مقرراً تنظيمه بمدينة شفشاون ما بين 11 و13 يوليوز الجاري، ردود فعل متباينة داخل الأوساط الثقافية والأدبية، عكستْ قلقاً عميقاً بشأن مستقبل التظاهرات الثقافية الجادة في المغرب. ليس هذا القرار، في جوهره، مجرد تأجيل تنظيمي عابر، إنه مؤشر واضح على التحديات التي تواجه المؤسسات الثقافية في سعيها للحفاظ على أصالة الفعل الشعري في بيئة متغيرة تتسم بتراجع الدعم والاهتمام الرسميين.
يسلط تأجيل مهرجان بهذا الوزن التاريخي الضوء على هشاشة البنى الثقافية وغياب الرؤية الواضحة التي تضمن استدامة الفعاليات التي تمثل رافداً أساسياً للحياة الأدبية الوطنية. من هنا، تبرز تساؤلات حول الأولويات التي تتبناها الجهات المعنية في تمويل ودعم المشاريع الثقافية، ومدى قدرتها على إرساء مناخ يُمكن المبدعين من المساهمة الفاعلة في بناء ثقافة وطنية متجددة ومستقلة.
ما الذي حدث؟ هل مات الشعر؟ هل استقال البحر من مرافقة القصيدة؟ هل فقدت شفشاون قدرتها على الحلم، أم أن الحلم نفسه خضع لتدقيق الميزانية؟ لا شيء من ذلك. فقط، المسؤول “غير جاهز”؛ لا وقت لديه للشعر. ربما انشغل بتدشين موقف سيارات جديد، أو بافتتاح دورة تدريبية حول كيفية تحفيز الإدارة على تجميد كل ما هو جميل.
تأجيل مهرجانٍ عمره عقود، شارك فيه شعراء كبار من المغرب والعالم العربي ” لغياب الدعم المالي من مختلف المؤسسات الرسمية محليًا وجهويًا ومركزيًا “، حدثٌ يستدعي حديثا:
منذ سنوات والجمعيات الثقافية تقفُ على عتبة المسؤولين مثل المتسولين، يُقدّمون لهم “المشاريع”، فيُقابلونها بالملل؛ يطلبون الدعم، فيُستقبلون بالصمت؛ ينتظرون ردا، فيأتيهم التأجيل.
يا لهذا الوطن الذي صارت فيه القصيدة مشروعًا إداريًا يتطلب توقيعًا وموافقة و”رؤية ميزانياتية مندمجة”. ويا للعجب، من يرفضون دعم المهرجان هم أول من يظهرون في صوره، يوزعون التصفيق على أنفسهم، وينسحبون قبل أن ينتهي الشعر من التنفس.
ما معنى أن يُؤجل مهرجان الشعر المغربي في زمن يحتاج فيه المواطن إلى المعنى؟ في زمن تتآكل فيه اللغة، ويختنق الخيال، وتتحوّل المدينة إلى صفيح إداري لا مكان فيه للروح؟ ما معنى أن يتمّ إهمال جمعية مثل المعتمد، لا تطلب الكثير سوى أن يتنفس الشعر قليلاً في شفشاون؟
الجواب واضح: نحن في زمن أصبح فيه الشعر مزعجًا، لا لأنه يقول الحقيقة، بل لأنه يُذكّرنا أننا كُنّا نستحق أجمل من هذا العَبث.
أيها المسؤولون، قد يتأجّل الشعر أحيانًا، لكنه لا يقبل الإهانة أو التهميش. إنه يعود دومًا، من نوافذ غير متوقعة، بلا دعم رسمي، بلا مظلات بيروقراطية، وبلا صور تزيّن بها التقارير السنوية، لأنه ببساطة إرث حيّ لا يملكُه أحد ولا يخضع لمزاج سلطةٍ عابرة. أما أنتم، فاستمروا في الانغلاق وراء مكاتبكم، فالشعراء لا يطرقون أبوابًا موصدة، بل يفتحون المنافذ بمداد أبيات من نار، تُذيب كل أقفال العجز والتجاهل.
الشعر لا يدخل ضمن أولويات التنمية البشرية
يبدو أن تنظيم المهرجان الوطني للشعر المغربي صار يتطلب، قبل انطلاقه، إصدار نشرة جوية سياسية تُحدد اتجاهات الرياح المزاجية للجهات المسؤولة عن الدعم. فإذا كانت الرياح تعصف من جهة المكاتب الإدارية، والمطر يتساقط بكثافة في صناديق الدعم دون وصوله إلى مستحقيه، فإن الحكمة تقتضي تأجيل القصيدة حتى تجف في أدراج الانتظار. فالشعر، كما جرى العرف، لا يزدهر إلا حين يكون رئيس القسم في حالة صفاء، وحين تُفتح خزائن الدعم بنبرة الموافقة والسّرور.
في ظل انشغال المسؤولين بتشييد الطرق وبناء قاعات العروض، يظل بيت الشعر يتخبط بين حُفر النسيان وأروقة التقارير الرسمية، بل وربما يُلقى في سلة المهملات بلا رحمة أو اهتمام. لا أحد يدري أين موضعه الحقيقي في أولويات التنمية الوطنية، وكأن الشعر يُعتبر رفاهية زائدة لا تستحق التخصيص المالي، أو كأن القصيدة سلعة تُلبس المسؤولين بذلة أنيقة، أو تُقدَّم لهم باحتفالية مزيفة على طبق من ذهب. هذا الانفصال بين جادة الفعل الثقافي ومكاتب القرار يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى فهمنا لقيمة الشعر باعتباره رافدا أساسيا للحياة الروحية والهوية الوطنية.
لا شك أن الشعر لا يُنتج دخلًا ماديًا مباشرًا يُقاس بالأرقام والحسابات، لكنه ينتج وعيًا عميقًا يُشكّل وجدان المجتمع ويغذي نضجه الثقافي والسياسي. وهذا بالضبط ما يجعل الجهات المختصة تؤجل دعمه عامًا بعد عام، متذرعة بحجج واهية تتباين بين سنة وأخرى، لكنها جميعًا تلتقي عند نقطة واحدة: عدم القدرة على استيعاب تأثير القصيدة، حتى لو كانت من خمسة أبيات فقط. أيُّ وعي هذا الذي يخشاهُ المسؤول إلى درجة أن يُقيّد مواعيد المهرجانات والفعاليات الشعرية ويؤجلها بلا مبرر حقيقي، وكأن الشعراء مجرد مضيّعين للوقت لا يستحقون أكثر من التجاهل؟
القصيدة لا تصلحُ للصورة الرسمية
عندما يُقام المهرجان، يهرع المسؤولون إلى المنصة، يتبادلون الصور التذكارية بجانب الشاعر، دون أن يميزوا في الغالب بينه وبين نادل القاعة، فالأهم هو التقاط اللحظة وتوثيقها. فطالما وُثّقت الصورة، اعتُبر الشعر قد نال نصيبه من الاهتمام، وانتهى الأمر عند هذا الحد. أما حين يحين موعد الدعم المالي، فإن الأسئلة تتوالى بلهجة استفسارية باردة: هل أُنجزت دراسة جدوى لهذا الشعر؟ هل يمكن توجيهه ليتوافق مع معايير السياحة المستدامة؟ ما هي مؤشرات نموّه الاقتصادي؟ تتجلى هنا المفارقة الكبيرة بين حبّ الظهور في صُور المهرجانات وبين تجاهل الجوانب الجوهرية التي تضمن استمرار الثقافة وازدهارها.
الشعرُ يؤجّل، والرداءة تقام في وقتها
يُثير الأمر سخريةً مُرّة أن يُؤجل المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث، تلك التظاهرة الثقافية التي حملت على عاتقها مسؤولية الحفاظ على أصالة الشعر وهويته، بينما تُقام مهرجانات التفاهة والاحتفالات البراقة في موعدها تمامًا، بإخراج مبهر، وبإعلانات متلألئة وصفقات مُغلّفة بإحكام تجذب الأنظار والاهتمام. الفرق بين الحدثين واضح وجليّ: الشعر يتطلب عقولاً صافية وجهوداً فكرية مستمرة، أما التفاهة فتحتاج إلى ميزانية سخية تسدّ بها صناديق الرّعاة والإعلانات. وهكذا، تُختزل الثقافة في صدى المزاج التجاري، ويتراجع الشعر إلى هامش الانتظار.
طالما أن الشعر لا يشكل تهديدًا انتخابيًا مباشرًا، فلا حاجة لإنعاشه أو دعمه، بل يُترك ليُؤجل إلى أجل غير مسمى، حتى يغدو شبحًا يتوارى بين صفحات النسيان. تتوالى الأسئلة في دوائر التمويل والإدارة: كم يدرُّ المهرجان من أرباح؟ كم يبلغ عدد زواره؟ وما هو حجم الدخل الناتج عنه؟ يغفل هؤلاء عن جوهر الشعر، ذلك الكيان الذي لا يُقاس بأرقام وإحصائيات، بل بما لا يُمكن قياسه؛ بالتأثير الذي يتركه في النفوس، وبالإيحاء الذي يُشعل شرارة الوعي، وبالقوة التي تنشئ أجيالاً تدرك أن الكلمة الحقيقية ليست مجرد حشو في ملف دعْم.
مهرجان الشعر في عطلة إدارية مفتوحة
في الواقع، لم يعد الشعر في المغرب حُراً كما ينبغي أن يكون، بل يُمارس عليه نوع من الإقامة الجبرية الإدارية، حيث ينتظر موافقة لجان رسمية تجتمع مرتين في السنة فقط، فيما تقضي بقية الشهور في سُبات بيروقراطي مُمل. الأمر ليس لأن الشعر يشكل تهديداً مباشراً، وإنما لأن حريته تزعج هذه الهياكل، ورشاقته تكشف هشاشة المؤسسات، وإيقاعه الطبيعي يتناقض جذرياً مع إيقاعات البيروقراطية. هكذا يُقيّد الشعر ويتحوّل من فعل حيوي ينبض في الحياة الثقافية إلى ملف يُنتظر مصيره في الأدراج المغلقة.
نقف اليوم مدافعين عن جمعية أصدقاء المعتمد، من باب الانحياز العاطفي، ولأن الجمعية جسّدت عبر تاريخها الطويل فهمًا راسخًا لطبيعة الشعر باعتباره ضرورة إنسانية لا تنفصل عن نسيج الهوية الثقافية الوطنية. لذلك، لم تتأخر هذه الجمعية عن تأجيل المهرجان عن قناعة أو تساهل، وإنما فعلت ذلك تحت ضغط الظروف، احترامًا للقصيدة وكرامتها؛ لم تخن جمعية المعتمد القصيدة، لكنها رفضت أن تُلقي بها في مهرجان بلا ميزانية، بلا سند، بلا حتى ماء شرب للمشاركين. أرادت أن تقيم للشعر مهرجانه كما يليق به، لا أن تُقيم له جنازة بلُغَة ” الندم الإداري”.
أما الذين يجب أن نُحاسبهم حقًا فهم أولئك الذين لا يتأخرون أبدًا عن التأخير: الوزارة، والجهات المانحة، والمسؤولون الذين لا يقرؤون إلا التوصيات، ولا يحضرون إلا الندوات المصوَّرة، ويعتقدون أن دعم مهرجان الشعر المغربي مسألة “تأشيرة مالية”، تُدرس وتُفحص وتُعرض على لجان ثلاثية لا تفرق بين القصيدة والفاتورة.
تصوروا أن المسؤول عن الشأن الثقافي في هذا الوطن يغفو قرير العين بينما يُحجب مهرجان وطني للشعر، عمره يمتد إلى ست وثلاثين دورة، ويُعتبر منارة ثقافية راسخة. في الوقت ذاته، تُصرف الملايين بسخاء على مهرجانات اللهو وألعاب الفيديو وأسابيع “الفرجة الفلكلورية”، التي تُستهلك كوجبات سريعة عابرة، بلا أي مساءلة أو تخطيط استراتيجي أو أثر ثقافي حقيقي. يكشفُ هذا التناقض الفاضح عن خلل جليّ في أولويات الدعم الثقافي، وعن غياب الرؤية التي تمكّن من تمييز القيمة الحقيقية بين ما يُغني الروح، وما يملأ الوقت بلا معنى.
نعم، نحن في بلد يؤجَّل فيه مهرجان الشعر، ويُعجَّل فيه مهرجان الشواء، وتُصرف فيه ملايين الدراهم على تظاهرات تُدجّن الذوق وتُقصي الفكر، بينما الشعر يُطلب منه أن “يكون مؤثرا بأقل تكلفة”، وأن “يبدع دون أن يُكلف”، حتى وإن سافر المشاركون في الحافلة، وأكلوا التمر والماء، وناموا في بهْو البلدية.
ولأن جمعية أصدقاء المعتمد رفضت أن تتحول مهمة تنظيم المهرجان إلى مسعى استجدائي أو تماهي مع منطق التنازل، فضّلت أن تؤجل الدورة. إن تأجيل الكرامة خير من إقامة مهرجان يُدار على وقع التوسلات والمراسلات الباردة التي تعكس تراجعًا في الاحترام للمشروع الشعري.
أيها المسؤولون، جمعية أصدقاء المعتمد لا تطلب أكثر من قدْر يسير من الوفاء والاحترام لرسالتها الثقافية العريقة. هذا هو الحد الأدنى من العدالة الثقافية التي تستحقها الجمعية، وهذا هو ما يجعل من الدعم ليس مجرد مساعدة مالية، وإنما اعترافًا صادقًا بأهمية الشعر في بناء الوعي والهوية.
منْ الذي نَسيَ أنّ القَصيدةَ وَطنٌ؟
نشأت جمعية أصدقاء المعتمد باعتبارها مشروعا ثقافيا راسخ الجذور، حفر لنفسه مكانًا خاصًا في ترسيخ مكانة الشعر المغربي ضمن ذاكرة الأمة الوطنية. فقد كانت الجمعية، عبر مهرجانها الشعري فضاءً تعاقبت فيه أجيال من الشعراء والنقاد والمبدعين، ممن صنعوا خطابًا جماليًا وفكريًا مؤثرًا.
وعلى هذا، لم يكن تأجيل الدورة السادسة والثلاثين من المهرجان الوطني للشعر المغربي الحديث قرارًا تقنيًّا عابرًا، إنه حدث له دلالة ثقافية صادمة تعبّر عن اختلالات عميقة في ترتيب الأولويات الثقافية بالبلاد. فالجمعية التي حملت على عاتقها، لعقود متواصلة، مهمة حفظ كرامة الشعر في زمن تتراجع فيه الاعتبارات الرمزية، وجدت نفسها فجأة في مواجهة صمت إداري مُطبق. إن في هذا التأجيل ما يُعيد طرح السؤال القديم الجديد: ما موقع الشعر في السياسات الثقافية الوطنية؟ وهل يُعتبر الشعر، بالفعل، مكوِّنًا من مكونات التنمية الرمزية، أم مجرد نشاط “تكميلي” يمكن تأجيله أو شطبه إذا ضاقت الحسابات؟
القصيدة ليست مؤثرة بما يكفي على إنستغرام، فحرموها الدعم
إن مهرجانًا في حجم مهرجان شفشاون ليس تظاهرة موسمية، بقدر ما هو مؤسسة رمزية تراكم حولها رصيدٌ من الثقة داخل المغرب وفي أوساط الشعراء العرب والأجانب الذين وجدوا فيها فضاءً نادرًا للإنصات الحقيقي إلى القصيدة بعيدًا عن الصخب الإعلامي.
لا يقتصر العطب في هذه الحالة على مجرد تأجيل دورة من دورات المهرجان الوطني للشعر المغربي، بل يتعدى ذلك إلى الرسالة الضمنية التي ترسلها المؤسسة الداعمة إلى الفعل الثقافي بأكمله. حين تُقصى جمعية تحمل إرثًا طويلًا وتجربة نوعية في تنظيم مهرجان يحتفي بالكلمة والفكر، ويُسهم في بناء المشهد الشعري الوطني، فإنها تكرس منطق تفضيل الفعاليات الأكثر بهرجة والأقل عمقًا. هذا الإقصاء لا يعكس فقط قصورًا في تقدير القيمة الثقافية، بل يُعد مؤشرًا على رؤية ضيقة للدعم الثقافي تهمّش الجديّة والابتكار لصالح السطحية والعرض الاستعراضي:
هل كانت الجمعية لتُعامل بالمثل لو كانت تهتم بإنتاج محتوى ترفيهي خفيف، أو بتنظيم مهرجان تسويقي مدعوم بشركات الإشهار؟ أم أن الشعر ما يزال يُعاني من وضعه الملتبس، بين الاعتراف به تراثًا والتعامل معه كعائق للحداثة السوقية؟
لقد دلّ هذا التأجيل على مفارقة عجيبة: كلما ارتفع مستوى الرهان الثقافي، كلما انخفض منسوب الاهتمام الرسمي. وكأن النجاح الرّمزي لبعض المبادرات الثقافية يُعتبر تهديدًا لنظام ثقافي غير مكتمل لا يحتمل الاستقلال الرّمزي؛ على أنّ ما يبعثُ على الحيرة أن الجهات التي تغضّ الطرف عن مهرجان راسخ في التاريخ الشعري للمغرب، هي نفسها التي تحتفي لاحقًا، بافتخار، بإنجازات هذا المهرجان إن نُظّم رغمًا عنها، لتضيفه إلى سجل “الأنشطة الناجحة في ربوع المملكة”.
جمعية أصدقاء المعتمد، ومنذ أكثر من ثلاثين دورة، تنظم مهرجانًا للشعر المغربي الحديث دون أن ترفّ لها عين؛ كانت تكتفي بالحبر والوفاء، وتُراكم المجد بصمت القصائد. تعرفُ الجمعية أن الشعر لا يُقاس بعدد الكراسي، وإنما بعدد الأرواح التي تهتزّ حين تُقال القصيدة. أما المسؤول، فقد بدا له الأمر غير مُقنع: ما الفائدة من مهرجان لا يصدُر عنه بيان ختامي مُنمّق؟ لا يرفع شعار “الشعر من أجل التنمية المستدامة”، ولا يُصوَّر بالدْرُون؟
نحبّ الشّعر… لكنْ …
أخيرا قال المسؤول:
“نحبّ الشعر، طبعًا، كيف لا؟ نحبّه في المقررات المدرسية التي لا يقرؤها أحد، وفي الخطب الرسمية التي لا يسمعها أحد، وفي المسابقات التي تنتهي بالتصفيق لا بالقراءة. نحبّه تمامًا كما نحبّ المطر حين يهطل على الحقول والمروج، نحبّه في “اليوم العالمي للشعر”، في “لقطات الفايسبوك”. لكن، رجاءً، لا تطلبُوا منّا أن نُموّله. تلك مرحلة عاطفية لم نصل إليها بعد. التمويل شيء آخر تمامًا. التمويل نخصّصه للمهرجانات ذات الرعاة، للأنشطة التي تُلتقط فيها صور جيدة، للفعاليات التي تضمن عائدًا مرئيًا. أما القصيدة؟ فلْتنتظر تحت درج مدينة قديمة، أو في صدر شاعر… بلا دعم ولا ميزانية، فالحب وحده – كما يقال – يكفي”.
ينبغي، في خضم هذا السياق، أن نتحلّى بقدر من الجدية والوضوح؛ فالسؤال الجوهري لم يعد مقتصرًا على مآل دورة مؤجلة من مهرجان شعري، بقدر ما يتعلق بمصير الفعل الثقافي الجاد في مجمله. ما مستقبل التظاهرات والمبادرات التي تراهن على القيمة الفكرية والرمزية، لا على منطق الاستهلاك والاستعراض؟ وما موقعها في خريطة السياسات العمومية؟ بل الأدهى من ذلك: ما جدوى وجود وزارة للثقافة إذا كانت لا تُنصت لأصوات المثقفين، ولا تُنصِف المشاريع التي تحمل فعلًا فكريا ينهض بالوعي ويصون الذاكرة الجمالية للمجتمع؟
إنها لحظة تكشف بجلاء التناقضات والتحديات التي تعصف بالسياسات الثقافية في بلادنا، لحظة مؤلمة لكنها في غاية الضرورة، إذ تفرض على الجميع وقفة تأمل ومساءلة صريحة. فمن يمنح الدعم، وما هي المعايير التي تُبنى عليها هذه القرارات؟ هل يمكن أن نتصور مغربًا يخلو من مهرجان الشعر في شفشاون؟ وهل يعقل أن بلدًا يفتخر بإبداعه الشعري الذي يمتد لقرون، يعجز اليوم عن توفير التمويل اللاَّزم لمهرجان يحتفي بهذه القصيدة ويُكرّم شاعرها؟
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.