لم يمت الحسين بن علي، سبطُ رسول الله ﷺ، مرةً واحدة. فالموتُ بالسيف كان أهونَ ما تعرّض له.
الطعنةُ القاتلة لم تكن تلك التي مزّقت جسده، ولا تلك الضربة التي فصلت رأسه في كربلاء، بل تلك التي توالت على ذكراه، حتى غُيِّبت معانيها، واغتيلت كلمته تحت ركام التأويلات الزائفة والطقوس الدموية.
لقد قُتل رضي الله عنه مرتين:
مرة بالسيف، حين تُرك وحيدًا في أرض العراق، وسقط مضرجًا بدمه على رمال “الطف”، ثابتًا على مبدئه، لا يساوم على الحق، ولا يهاب السيف.
ومرة أخرى بالخرافة، حين غرقنا في الحزن عليه حتى نسيناه، وبكينا مأساته بالسلاسل والسكاكين، وتركنا رسالته تصرخ في صمت الضمير الغائب.
زُعم أن السماء أمطرت دمًا، وأن الشمس انكسفت، وأن الجدران سالت دمًا.
خلطنا المأساة بالخرافة، ونسينا أن جوهر الحسين كان في كلمته لا في مأساته، في صموده لا في دمه، في وعيه لا في تأليهه.
الحسين لم يكن طالب ملك، ولا متمرّدًا على شرعية، بل معترضًا على التوريث القسري للحكم، رافضًا لسلطة تُفرض بالإكراه.
خرج إلى الكوفة استجابةً لنداءات من بايعوه، لا طمعًا في سلطة، بل وفاءً لمبدأ.
وعندما حذّره الناصحون من الغدر، اختار الشهادة على المساومة، لأن السكوت على الظلم خيانة، وصدى الكلمة الحرة أبلغ من صليل السيوف.
غير أن ذكرى استشهاده ما لبثت أن انحرفت عن معناها، وتحولت كربلاء من موقفٍ أخلاقي إلى طقوس موسمية.
أصبحت عاشوراء موسمًا للّطم والانفعال، لا لحظةً للتفكّر والمساءلة.
ومورست طقوس جلد الذات والتطبير والندب، دون أن تُطرح الأسئلة الجوهرية: لماذا خرج الحسين؟ لماذا قُتل؟ وما الرسالة التي أراد أن يورّثها للأمة من بعده؟
عاشوراء ليست حدثًا نحييه كل عام، بل قيمة نحملها كل يوم.
ليست مأساة تُبكى، بل وعي يُستعاد.
وإن أعظم وفاء للحسين أن نحرّر ذكراه من أسر الطقوس وغبار السياسة، وأن نعيدها إلى جذورها النبوية:
موقف من أجل الحق، وشهادة من أجل الكرامة، وكلمة لا تموت.
قالها عبد الرحمن الشرقاوي على لسان الحسين في رائعته المسرحية “الحسين ثائرًا”، عند رفضه مبايعة يزيد بن معاوية:
أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة نور…
وبعض الكلمات قبور