تقديم: المسرح كأداة للتحول الاجتماعي والثقافي
يمثل المسرح في المغرب نافذة فنية وإبداعية تتجاوز حدود الترفيه لتلامس أعماق القضايا المجتمعية السياسية والثقافية والاجتماعية المطروحة في الوعي والحاضر الجمعي؛ ففي ظل التحولات العميقة والمتسارعة التي يشهدها العالم اليوم على مختلف مستويات النظام العالمي التقليدي بتراتبياته المختلفة يبرز السؤال حول دور المسرح المغربي كرافعة مندمجة في الصناعات الثقافية، وكأداة فاعلة في التربية والتنشئة وتحسين الذوق المدني، خاصة أن بلادنا تعيش منذ عشريتين على الأقل تحولات كبرى في صورتها وبنياتها وثقافتها وتوجهاتها الجيوسياسية وأساليب إدارتها وتدبيرها، مسايرة لعالم متسارع التغيرات في نظامه وتكتلاته وجيو-إستراتيجياته.
يستكشف هذا المقال في عجالة مستقبل المسرح المغربي من خلال تحليل التحديات والرهانات التي تواجهه، مع التركيز على كيفية تحويله إلى قوة دافعة مساهمة في التحديث الثقافي والاجتماعي، الذي من المفترض أن يواكب التحديث الاقتصادي والدبلوماسي، وفي البنيات التحتية التي يعرفها المغرب بشكل غير مسبوق.
الوضع الراهن للمسرح المغربي: تاريخ مجيد وإنجازات وعوائق
إرث تاريخي وإنجازات غنية وتطور متعثر
يتمتع المسرح المغربي بإرث تاريخي غني يعود، بالإضافة إلى ما قبل الاستعمار وما قبل الشكل المسرحي الحديث، إلى انتشار شعبي مذهل منذ ستينيات القرن الماضي، مع انتشار وإشعاع مسرح الهواة وفرقة المعمورة وفرقة المسرح الوطني محمد الخامس، ناهيك عن أسماء وفرق بصمت الساحة المغربية على مدار عقود إبداعا وتنظيرا. ومع ذلك فإن المسرح المغربي المعاصر اليوم، رغم بعض النجاحات هنا وهناك التي لا تمثل بأي حال من الأحوال نجاحا بنيويا يجعل المسرح المغربي في قلب إشعاع ثقافي وفني شامل للمجتمع، يواجه تحديات جمة تحول دون تحقيق إمكاناته الكاملة كصناعة ثقافية، قادرة على المساهمة في التنمية المجتمعية بمعناها الديناميكي والقيمي والجمالي بشكل فعال ومساير للعصر ولتحولاته الكبرى. صحيح أن هناك محاولات فردية ومعزولة تجتهد في الجمع بين الإرث والموروث والمتاح اليوم، لكن النتيجة بالمعنى البنيوي والإستراتيجي تظل ضعيفة كما هو الحال في الكتاب والسينما وغيرها من الإنتاجات والصناعات الثقافية والفنية. فبعد 25 سنة من سياسات الدعم الحكومي مازال المسرح المغربي “يجتر أعطابه” كما يصفه النقاد، ويعاني من غياب الجمهور المسرحي الواسع، ومن قلة العائدات المالية التي تضمن استمراريته وانتظامه واستقلاليته .
هي إذا تحديات يواجهها المسرح المغربي ومنها أساسا:
تحديات البنية التحتية والتمويل
تشير تحليلات متعددة المنظور وزوايا النظر والمرجعيات إلى أن نظام الدعم المسرحي الحالي يعاني من اختلالات هيكلية؛ فعدد المسارح التي تستحق حمل اسمها قليل جدا ويغطي نسبة ضعيفة من التراب الوطني (قاعات السينما والمكتبات ودور النشر وأروقة الفنون التشكيلية …). كما أن الدعم الحكومي للإنتاج المسرحي على ضعفه، الذي يمثل العصب الحي للمسرح المغربي، يعرف مشاكل أهمها التأخر في الإعلان عن نتائجه، وضيق الفترة الزمنية الممنوحة لإنجاز الإنتاج (لا تتجاوز 3 أشهر في بعض الحالات)، ناهيك عن التأطير الإداري الصرف لهذا الدعم. كل ما سبق ينعكس سلباً على جودة العروض المسرحية وعلى قدرتها الإبداعية وعلى مساحات انتشارها وترويجها وتواصلها بالتالي مع فئات المجتمع. يدفع هذا الوضع العديد من الفرق المسرحية المحظوظة في نيل الدعم إلى تقديم أعمال غير ناضجة فنياً، وهو ما يؤثر سلباً على سمعة المسرح المغربي ككل وعلى تطوره وانتشاره.
رهانات تحويل المسرح إلى صناعة ثقافية فاعلة
التأسيس لاقتصاد مسرحي مستدام
لتحقيق اندماج المسرح في الصناعات الثقافية لا بد من الانتقال من منطق الدعم إلى منطق الإنتاج المستدام. وكما يشير حسن هموش، رئيس الفدرالية المغربية للفرق المسرحية المحترفة، فإن “تحويل مفهوم الدعم إلى مفهوم الإنتاج” هو أحد المفاتيح الأساسية لضمان استقلالية القطاع المسرحي. ويتطلب ذلك تطوير آليات تمويل مبتكرة تشمل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإقامة صناديق دعم خاصة بالفنون، وتشجيع الرعاية الثقافية من قبل المؤسسات الاقتصادية. ولعل ذلك ما سيجعل من التلاؤم مع العصر وتجليات تطوره المتعددة أكثر عمقا وملاءمة، عوض غزو الادعاء والسطحية والرداءة والتلفيق باسم الإبداع والجماليات الذي يسود اليوم ساحات الصناعات الفنية عموما بالمغرب.
التحديث المؤسسي وإصلاح الهياكل
تشير الندوة الفكرية التي ناقشت السياسات العمومية في المجال الثقافي إلى ضرورة “تأسيس مجلس أعلى للمسرح وتسريع القوانين التنظيمية لإعادة هيكلة المسرح”. ويجب لهذا الإصلاح المؤسسي أن يشمل إنشاء شبكة مسارح أولا، وفرق جهوية قارة ومتمكنة من وسائل الاشتغال المنتظم، ومعاهد للتكوين المسرحي الرصين والمؤسس على العلم والممارسة في مختلف جهات ومناطق المغرب، ما يسهم في تحقيق العدالة المجالية وتنشيط الحياة المسرحية خارج المدن الكبرى والمتوسطة التي تحتكر اليوم البنية الضعيفة أصلا للعرض والتكوين والإنتاج والترويج.
المسرح كأداة للتربية والتنشئة
تعزيز القيم المدنية والهوية الثقافية
يمتلك المسرح قدرة فريدة على المساهمة في التربية والتنشئة من خلال تقديم نماذج إيجابية وقدوات نبيلة وقيم جمالية كونية، وتعزيز حضور القيم المدنية في الحياة المجتمعية وفي فضاءات العيش المشترك. يمكن للمسرح أن يكون أداة لتأسيس “وعي جمالي جديد” وطرح أسئلة مبتكرة حول معنى الإبداعية ومدى ضرورته في العيش الإنساني، ومدى قربه من المشاعر والأفكار والإدراك البشري. ومن خلال العروض التي تعالج قضايا الوطن وتحديات العصر يمكن للمسرح أيضا أن يصبح فضاءً للحوار المجتمعي ولترسيخ القيم الديمقراطية وللتسامح والتآلف بين شرائح المجتمع الواحد وأجياله.
اكتشاف المواهب ورعايتها
مع تسجيل الأسف الشديدي لغياب تام يشكل المسرح المدرسي والمسرح الجامعي أداة أساسية لاكتشاف المواهب الشابة ورعايتها، فهما منجمان للمسرح الوطني. وقد اقترحت ندوات ولقاءات ومناظرات عدة، على مر عشريات، إعادة هيكلة المسرح في المؤسسات التعليمية، “من الابتدائي إلى الجامعي”، باعتباره شرطا أساسيا لبناء جيل جديد من المبدعين والجمهور الواعي والمتذوق للفنون وللإبداع. سيمكن استثمار كهذا في الرأسمال البشري من تفتيق قدرات الصغار الموهوبين، كما تبين ذلك تجارب عديدة عبر العالم في برمجة تدريس وتنظيم ورشات وإنتاجات للصناعات الفنية والثقافية في المدارس ومؤسسات التعليم بكل أسلاكه.
تحديات الانتشار والتواصل الجماهيري
توسيع قاعدة الجمهور
يواجه المسرح المغربي تحدياً كبيراً في توسيع قاعدته الجماهيرية، فلم يصبح المسرح منذ عشريات ثلاث على الأقل فرجة ولا ثقافة ضرورية ولا حاجة يومية ملحة للمواطن المغربي بعد تراجع ممارسته وإشعاعه وجولاته عبر التراب الوطني. ولمواجهة هذا التحدي لا بد من تطوير إستراتيجيات تواصل مُبتكرة تشمل التعاون مع الجهات ومجالس المدن والجامعات والمؤسسات التعليمية وغيرها، ومع وسائل الإعلام أيضا. وفي عصر التكنولوجيات التواصلية والترويجية لا بد من استغلال المنصات الرقمية، بل وخلق ما يلائمنا منها، وتنظيم عروض في الأماكن غير التقليدية، لجذب شرائح جديدة من الجمهور المغربي، الذي بدأت فئات عريضة منه تفقد أي معرفة وإحساس بأهمية الفنون، بعد فقد الكتاب مكانته في فكرها وفي مشاعرها وإدراكها.
التوازن بين المركز والهامش
يرتبط النقاش حول مستقبل المسرح المغربي بضرورة تحقيق التوازن بين المدن الكبرى والمتوسطة والصغرى في درجة التوفر على فضاءات للتدريب وللعروض المسرحية، وعلى بنيات إنتاجية.
فكما جاء في كتابات وفي مناسبات لقاءات علمية واحتفالية حول “المسرح المغربي” هناك بالتأكيد حاجة إلى تعزيز الحضور المسرحي في الحواضر وفي كل المناطق النائية، من خلال إنشاء بنى تحتية مناسبة وتنظيم مهرجانات محلية ملائمة وذات إشعاع حقيقي مؤطَّر جيدا. سيساهم هذا التوزيع الجغرافي العادل للعروض المسرحية في تعميم الفائدة التربوية والجمالية والثقافية التي يحملها المسرح، كما سيساهم في تقوية النسيج الاجتماعي.
إن توظيفا مفكرا فيه بشكل مختلف، وانطلاقا من إعادة النظر في مفهوم تدبير مديريات الثقافة والمراكز الثقافية ودور الشباب، إضافة إلى توفير المزيد من الاعتمادات لها، سيكون من ضمن أسس تحقيق نوع من العدالة المجالية في إنتاج وترويج الأعمال المسرحية بمضامين محلية، وبطاقات بشرية شبابية أساسا، مدعومة بخبرة الجيل السابق وما راكمه من تجربة تدبيرية وإبداعية.
آفاق التحديث والابتكار المسرحي
التجريب والتجديد الجمالي
يشكل التجريب أحد أهم سبل تطوير المسرح عموما وكل الفنون والعلوم؛ فهو يفتح آفاق التطوير والتحسين وتجديد وتنويع الإبداع وجمالياته بكل أبعادها ومحمولاتها القيمية. والبحث عن “أفق التجريب وحدود الفرجة” وفتح آفاقهما على الممكن دائما هو ما يمكن أن يمنح المسرح المغربي حيويته وقدرته على مواكبة التحولات الثقافية المحلية والكونية. وينبغي لهذا التجريب أن يشمل ليس فقط الأشكال الجمالية، ولكن أيضاً زوايا المقاربة الفنية والتقنية للموضوعات التي تلامس هموم المواطن المغربي وتطلعاته، في سياق لا ينفصل فيه القطري عن الكوني، ولا الشكل عن المضمون.
لتثبيت منطق وفضاءات التجريب وإنتجيته لا بد من الاشتغال الجاد والصارم على إعادة النظر في معايير ومقاييس الدعم وصرفه وتقريره، مع اعتباره، إلى جانب دعم الجانب الاجتماعي للمشتغلين في المسرح عموما، محركا جوهريا لاستمرارية الإبداع في ارتباط جوهري بمساحات التجريب. ولا يخفى في هذا السياق أن التجريب لم يتماش قطعا مع الفراغ الفكري والتكوين المعطوب والفكر السطحي وعقلية التسويق كأولوية قصوى، ناهيك عن خضوعه لمنطق السوق ومغازلتها. فالتجريب يرتبط عضويا برصانة التفكير والتحليل والنقد من منطلق تخليص العمل المسرحي المفكر فيه من الدوكسات وإملاءات الهجانة ودغدغة النجاح السريع و”الشهرة” المبكرة، خاصة أن سوق استهلاك الفنون عموما ببلدنا، مسرحا وسينما وتلفزيون، ترزح تحت ثقل سيطرة صناعة المحتوى وما خلقته من صنف “نجومية” غالبا ما تحمل قدوات وتصورات مضادة تماما لقيم التحديث، رغم تبنيها، في الغالب عن غير وعي، معاناة وحيرة وسخط شباب لا يستوعب لا التاريخ ولا الجغرافيا ولا فلسفة بلده، ولا العالم الذي يكتسحه بليبرالية متوحشة، وتكنولوجيات ماكرة، تحمل كل مفجرات الوعي وتسطيحه.
يأتي ضمن ما سبق التخلي من طرف إدارة الوصاية عن الارتباط التاريخي بلوائح محددة من “نخبة” يتم تدويرها باستمرار في كل المناسبات والاحتفالات والتجمعات والنقاشات، لإعادة إنتاج الأفكار والخطابات نفسها، على غرار سلف صالح لا يحكمه لا الزمان ولا مكان التطور المتسارع.
توظيف التراث وتطويره
يمتلك المغرب ثروة من الأشكال التراثية الفرجوية، مثل “الحلقة” و”البساط” و”سيدي الكتفي” إلخ، التي يمكن توظيفها في المسرح المعاصر، وهو ما تم بالفعل مع الرواد خاصة بأشكال متعددة. وكما يشير باحثون كثر فإن هذه الأشكال تحمل في طياتها إمكانيات إخراجية كبيرة يمكن أن تسهم في تأصيل مسرح مغربي مميز، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، مع الأمل في تخطي حدود التلفيق والتركيب غير المتناغم والهجانة المسيئة في نهاية المطاف لمفاهيم الإبداع والتجديد، بل والمسرح ذاته.
ليس التراث “بلغة” وسلهاما و”برادا” وطربوشا وجلبابا ولا “مضمة” و”قفطان” … فقط، كل مطاهر التراث الأنثرووبولوجي الوطني التراثية من لباس وديكور وأفرشة وبنايات وآثار وأثاث إلخ لها معان وجذور، وهي حية حاملة لقيم ولرسائل، كما لها شروط إنتاج وتوظيف تشكل مناخاتها حيث تتنفس، وأي اشتغال عليها مجتثة من سياقاتها ومناخاتها المركبة لن ينتج سوى هجانة قاتلة ومسممة ومبعثرة لمضامين هذا التراث العظيم الحية. فهل من المعقول اشتغال موسيقي أو مغن أو مخرج “كليب”، أو سينوغرافي مسرح أو كاتب مسرحي أو سيناريو، على تراث لا يعرف تاريخه ولا سوسيولوجيته ولا سياقاته المونوغرافية ولا تقنياته اليدوية، ولا ارتباطاته بنمط التديُّن وتنفسه في بنية الأسرة المغربية الممتدة، ونشأته في سوق الحرفيين الأوائل، وتاريخ الهندسة المعمارية المغربية المركبة التي أنتجت في ظلال وروائح وأنغام أسواقها ومحترفاتها وبيوتها وأفرانها وأدواتها؟.
عندما تغيب هذه المعرفة الرصينة يصبح العمل المسرحي استعراضيا لمظاهر لامعة “تضرب على الشعا” كما يقول المغاربة، وهو ما قد يعجب البعض لحاجات مؤقتة أو مصلحية في أنفسهم.
نحو رؤية إستراتيجية للمسرح المغربي
أعتقد أن الارتقاء بالمسرح المغربي إلى مستوى الرافعة الثقافية والتنموية يحتاج توفر “أهل الذكر” على رؤية إستراتيجية شاملة– نعلم يقينا أن هذا الكلام لا يُعجِب – تأخذ في الاعتبار جميع الجوانب التي تناولناها. هذه الرؤية نعتقد أن من الضروري بناؤها على:
1- إصلاح نظام الدعم بنيويا وتحويله إلى استثمار في الإنتاج المستدام بذكاء وبملاءمة.
2- تطوير البنى التحتية للممارسة وللتكوين المسرحي في جميع جهات المغرب بشكل مدروس ونفعي.
3- دمج المسرح في المنظومة الثقافية والتربوية لاكتشاف المواهب ولبناء جمهور يميز معنى وجمالية ووظيفية المسرح في المجتمع ونظامه القيمي.
4- تشجيع التجريب والابتكار في الأشكال والمضامين المسرحية بربطه بالممارسة بالوظيفية العملية للمسرح وبكل بنياته تكوينا وإنتاجا وترويجا.
5- تعزيز التعاون بين جميع الفاعلين في الحقل المسرحي والثقافي والفني عموما، وجعل الولاية على القطاع مساعدة ولينة وتدبيرية بشكل عملي وعقلاني تتمتع بكل الوسائل للقيام بمهامها.
إن تحقيق هذه الرؤية يتطلب “إصلاحاً ديمقراطياً شفافاً يشمل الثقافة والفن بموازاة التربية والتكوين، في سياق التحديث الإستراتيجي للبلاد والعباد عموماً”. فمن خلال مقاربة تشاركية تشمل الدولة والمجتمع المدني والفنانين والجمهور يمكن للمسرح المغربي أن يلعب الدور المنوط به كرافعة للتنمية الثقافية والاجتماعية، وكجسر للتواصل بين مختلف شرائح المجتمع المغربي، وبينه وبين المجتمعات الصديقة.