مع اقتراب الذكرى المئتين والخمسين لإعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية تدخل واشنطن مرحلة فارقة من إعادة تقييم مسارها السياسي والحضاري، في ظل واقع داخلي منقسم، وصورة دولية تتآكل تحت وطأة تناقضات السياسات والممارسات.
ففي الرابع من يوليو 2026 لن يكون الاحتفال مجرد عروض ألعاب نارية وخطب وطنية، بل سيكون لحظة اختبار للرسالة الأمريكية ذاتها: ما الذي تبقّى من مشروع “الدولة الأعظم”؟ وما حدود هذا النموذج بعد قرنين ونصف القرن من الهيمنة، والانتصارات، والانكسارات؟.
تسعى إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى تحويل المناسبة إلى استعراض ضخم لما تسميها “حقبة جديدة من العظمة الأمريكية”، عبر فعاليات موجهة، ولجان منظمة تحت إشراف مباشر من البيت الأبيض، ورموز مختارة بعناية لتكريس سردية قومية محافظة، تحتفي بالماضي وتتجاهل جراح الحاضر.
لكن خلف مظاهر الاحتفال تواجه الولايات المتحدة لحظة انقسام داخلي غير مسبوق؛ فقد تعمق الشرخ بين التيارين المحافظ والتقدمي، وتراجعت الثقة في المؤسسات، واتسعت الفجوة بين الطبقات، وارتفعت معدلات العنف المسلح، وتدهورت جودة الحياة في العديد من الولايات. وفي هذا السياق تتحول الاحتفالات إلى واجهة رمزية تخفي خلفها أسئلة مؤجلة عن العدالة والهوية والمصير.
ومع ذلك فإن “الحلم الأمريكي” مازال مقيمًا في وجدان الملايين، داخل البلاد وخارجها، ولاسيما لدى مهاجرين وباحثين عن بداية جديدة. فبين وادي السيليكون وجامعات مثل MIT وهارفارد، ومن شركات التكنولوجيا الكبرى إلى مراكز الأبحاث المتقدمة في الذكاء الاصطناعي والطب الحيوي، مازالت الولايات المتحدة تحتفظ بريادتها العلمية والاقتصادية والمعرفية.
غير أن هذا الوجه المشرق يتعايش مع سياسات هجرة متشددة، وسقف منخفض لتوقعات العدالة الاجتماعية، ما يكشف تناقضًا صارخًا بين الصورة والطموح، ويثير تساؤلات حول مستقبل التماسك الوطني.
خارجيًا، لم تكن الولايات المتحدة يومًا دولة انعزالية تمامًا، لكنها تحوّلت تدريجيًا إلى قوة تدخل مباشر في الشؤون الدولية تحت شعارات متبدلة، من حماية الديمقراطية إلى محاربة الإرهاب. وعلى امتداد 250 عامًا خاضت واشنطن عشرات الحروب، تكبّدت خلالها خسائر بشرية هائلة.
فقد أودت الحرب الأهلية بحياة نحو 750 ألف شخص، وسقط في الحرب العالمية الثانية ما يزيد عن 405 آلاف جندي أمريكي، وفي فيتنام قُتل نحو 58 ألفًا، بينما خلّفت “الحرب على الإرهاب” بعد عام 2001 أكثر من 7 آلاف قتيل في صفوف القوات الأمريكية، إضافة إلى مئات الآلاف من الضحايا المدنيين في العراق وأفغانستان وسوريا.
وفي قلب هذه السياسات يظل الانحياز الأمريكي الثابت لإسرائيل أحد أكثر مصادر التوتر مع شعوب المنطقة العربية؛ فقد دعمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة المشروع الاستيطاني، وشرّعت تهويد القدس، وعرقلت قرارات مجلس الأمن، في تجاهل فاضح للقانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني. هذا الانحياز، الذي بلغ ذروته في عهد ترامب، جعل من الخطاب الأمريكي حول حقوق الإنسان والعدالة خطابًا انتقائيًا، يخضع لحسابات السياسة الداخلية أكثر من احتكامه إلى المبادئ الأخلاقية.
ورغم هذا التراكم الإشكالي تبقى العلاقة بين الولايات المتحدة والمغرب استثناءً لافتًا في السياسة الدولية. فقد كان المغرب أول دولة تعترف رسميًا باستقلال الولايات المتحدة سنة 1777، في وقت كانت واشنطن تفتقر إلى أي اعتراف دولي.
لم يكن ذلك الاعتراف مجاملة دبلوماسية، بل تعبيرًا عن وعي إستراتيجي مبكر لدى السلطان محمد الثالث، الذي أدرك تغيّر موازين القوى، وفتح موانئ بلاده للسفن الأمريكية، ووفّر لها الحماية من القراصنة في المتوسط.
ومنذ ذلك الحين تطورت العلاقة المغربية–الأمريكية عبر اتفاقيات صداقة، وتعاون في مجالات الأمن والتجارة والتعليم. وقد بلغت شراكة البلدين مستوى إستراتيجيًا في عهد الملك محمد السادس، تكرّست باعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية في ديسمبر 2020. إنها علاقة تستند إلى رصيد تاريخي من الثقة المتبادلة، والتقاطع في المصالح، والانفتاح على الفضاء الأطلسي المشترك.
حين وقّع الآباء المؤسسون وثيقة الاستقلال قبل 250 عامًا لم يكونوا يؤسسون دولة فحسب، بل زرعوا فكرة جريئة في وعي البشرية: أن الحرية ممكنة، وأن القيم لا تكتمل إلا حين تصون كرامة الإنسان. واليوم، رغم كل المآخذ، مازالت أمريكا تحمل شرارة ذلك الوعد؛ وإذا كانت تراجعت أحيانًا عن قيمها فإن قدرتها على تصحيح المسار مازالت قائمة.
فالأمم العظيمة لا تُقاس بما تملكه من قوة، بل بما تملكه من شجاعة لمواجهة نفسها. وإن المبادئ تفقد صدقيتها حين تُطبّق بانتقائية، وتتحوّل من قيم إنسانية شاملة إلى أدوات تخدم المصالح وتُخرِس المظلومين والمستضعفين، وفي مقدمتهم من تُسلب أرضهم وحقوقهم تحت صمت العالم، كما هو حال الفلسطينيين منذ أكثر من سبعة عقود.
وفي لحظة كهذه قد تكون أعظم هدية تقدمها أمريكا للعالم أن تثبت أن الحلم الذي بدأ عام 1776 لم يمت… بل مازال قادرًا على أن يولد من جديد.