في ذروة التوترات التي تعصف بالشرق الأوسط تجاوزت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على إيران منطق الردع العسكري المحدود، لتكشف عن مشروع إستراتيجي واسع تسعى تل أبيب إلى ترسيخه منذ سنوات. مشروع لا يقوم على مفهوم “السلام المتبادل”، بل على معادلة “الهيمنة الدائمة”، حيث يُعاد رسم المشهد الإقليمي على أسس غير متكافئة: تفوّق عسكري، استقرار مفروض، وشروط تفاوض تُصاغ وفق الرؤية الإسرائيلية وحدها.
تدّعي إسرائيل أن تحركاتها العسكرية تهدف إلى منع إيران من امتلاك سلاح نووي، رغم غياب أي دليل قاطع من الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن ما يجري يتجاوز هذا العنوان الظاهري، ليمثل اختبارًا للتوازنات، ومحاولة لإعادة ترتيب أوراق النفوذ في الشرق الأوسط، وسط دعم أمريكي غير مباشر، وصمت أوروبي لافت. في هذا السياق استثمر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حالة التصعيد لتعزيز موقعه داخليًا، والهروب من أزماته القضائية والسياسية، متسلحًا بخطاب “التهديد الوجودي” الذي يمنح حكومته غطاءً استثنائيًا.
لكن إيران، رغم كونها الطرف الظاهر في الصراع، ليست الهدف الوحيد؛ فالمسار العام يكشف سعي إسرائيل إلى تطويع البيئة العربية والإقليمية لقبول صيغة “سلام” لا تقوم على الاعتراف المتبادل أو السلام العادل، بل على الخضوع لشروط أمنية وسياسية تضمن لتل أبيب احتكار القرار والنفوذ الإقليمي. من العدوان الفاضح على غزة، إلى تقليم أظافر حزب الله، مرورًا بسقوط نظام الأسد، والتطبيع المرتقب بين إسرائيل وسوريا في نهاية العام الحالي، تتضح ملامح مشروع يعيد رسم خارطة العلاقات العربية – الإسرائيلية.
في هذا الإطار لم تعد إسرائيل تكتفي برفع شعار “السلام مقابل السلام”، بل باتت تدفع نحو “تسوية استباقية”، تُقوّض فيها حقوق الفلسطينيين تحت لافتة الحل النهائي؛ فالتطبيع بالنسبة للدولة العبرية لم يعد مشروطًا بتقدم في العملية السلمية، بل تحوّل إلى معيار تُقاس به مدى “الواقعية السياسية” لدى الأنظمة، مع تغافل تام عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته.
وعلى امتداد تعاقب الإدارات بقي الدعم الأمريكي لنهج نتنياهو ثابتًا. وقد أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن بلاده “تنفق مليارات الدولارات سنويًّا لحماية ودعم إسرائيل”، مشيدًا بدور نتنياهو في مواجهة إيران؛ كما وصف ملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي أمام القضاء بأنها “مطاردة سياسية”. هذه التصريحات تعكس عمق الانحياز الأمريكي، واستمرارية الدعم لتل أبيب، مع تجاهل تام للوقائع التي تُسجَّل في الأراضي المحتلة.
أما الموقف الأوروبي فيتسم بالتأرجح والانقسام؛ فقد برزت إسبانيا كمثال على موقف أخلاقي واضح، إذ استدعت القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية بعد تصريحات عدائية من تل أبيب، ودعت إلى تعليق اتفاقية الشراكة الأوروبية مع إسرائيل، متهمة إياها بانتهاك حقوق الإنسان في غزة. وفي المقابل تواصل ألمانيا تزويد إسرائيل بالأسلحة رغم الانتهاكات المتصاعدة، ما يعكس غياب موقف أوروبي موحد، وانقسامًا بين من يربط الاستقرار بالعدالة ومن يمنح الغطاء السياسي والعسكري بلا شروط.
هذه التحولات لا تنفصل عن بنية المشروع الصهيوني في أصله، كما يؤكد المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، الذي يرى أن نكبة عام 1948 كانت “نموذجًا تأسيسيًا” لمنطق الإقصاء والسيطرة. وما نشهده اليوم من تفكيك للمجتمع الفلسطيني، وحصار للمدن، وتجفيف لمقومات الحياة، ليس سوى استكمال ممنهج لذلك النموذج.
أمام هذا المشهد لم تكن الاستجابة العربية على الهامش؛ خمس دول عربية مركزية — المغرب، السعودية، الإمارات، مصر، والأردن — أعادت مرارًا وتكرارًا تثبيت مواقفها المبدئية، وأعلنت في العديد من المناسبات وبوضوح أن لا حل سياسيًا دون قيام دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية. الملك محمد السادس، رئيس لجنة القدس، أكّد أن القضية الفلسطينية تظل في مرتبة موازية لقضية الصحراء المغربية، مشددًا على ثبات الرباط في دعم حق الفلسطينيين. وشدّدت الرياض على أن الطريق إلى التطبيع يمر حصرًا عبر بوابة الدولة الفلسطينية المستقلة. وواصلت كل من أبوظبي والقاهرة وعمّان تأكيد التمسك بحل الدولتين باعتباره حجر الزاوية لأي تسوية عادلة.
وفي مقابل هذا التماسك الرسمي والثبات العربي برزت بعض الخطابات الشعبوية التي سعت إلى التشويش عليه، سواء من بعض تيارات الإسلام السياسي أو من اليسار المؤدلج، من خلال مهاجمة هذه المواقف، والتطاول على رموز الدول العربية، والتدخل في خياراتها السيادية. غير أن هذه الطروحات كثيرًا ما تفتقر إلى السند الواقعي أو البدائل العملية، وتتجاهل حجم الجهد السياسي والدبلوماسي الذي تبذله العواصم العربية في دعم الحقوق الفلسطينية ضمن مناخ دولي ملتهب ومحكوم باختلال موازين القوة.
السياسة لا تُقاس بالشعارات، بل بما تُحدثه من نتائج واقعية وقدرة على كبح المسارات المفروضة. وإن كانت إسرائيل تسعى إلى فرض تسوية أحادية تُقصي الفلسطينيين وتُعيد صياغة النظام الإقليمي وفق مصالحها الأمنية الضيقة فإن المواقف العربية، بثباتها وحصانتها، مازالت تمثل حاجزًا أمام هذا المسار.
إن المشروع الإسرائيلي الذي يسعى إلى فرض “سلام الأمر الواقع” يصطدم اليوم بجدار عربي صلب، أعاد تعريف الأولويات، ووضع سقفًا واضحًا لأي تقارب إقليمي: ضرورة قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، ولا استقرار دون عدالة تُعيد للشعب الفلسطيني حقه المشروع. وبين منطق القوة الذي تراهن عليه تل أبيب، ومنطق الشرعية الذي تتمسك به العواصم العربية، تتشكل معادلة جديدة عنوانها أن السلام الحقيقي يمر بالضرورة عبر بوابة حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.