في يوم شديد الحرارة من أيام الأسبوع الماضي، قادتني تعرجات ممرات الدوار إلى الحانوت الوحيد الذي يزود الساكنة بحاجياتهم، حانوت بسيط لا توجد به إلا تلك المواد التي لا مفر منها لسكان الدوار، أو لنقل، ما نسي الناس شراءه من سوق أربعاء بنسليمان…زيت…سكر القالب…أعواد ثقاب…علب شاي من النوع العادي جدا…فانيد المكانا…وصور مولاي عبد القادر الجيلاني والأسد، وسيدنا سليمان والعفاريت، وسيدنا علي حين طعن الغول بسيفه ذو الفقار…ومشاهد أخرى تسكن تلك اللوحة الورقية، التي غيرت ملامحها بقايا الذباب…تزين الحانوت وتضفي عليه وقارا وإجلالا يشعرك أنك في مكان صوفي…
صاحب الحانوت رجل جاوز السبعين من العمر، بسيط في كل شيء…قبعة مائلة على الجانب الأيسر من رأسه، تكاد تخفي أذنه…جلباب صوفي متآكل يقيه الحر والقر…نعل جلدي بلون أصفر باهت… لا تغادر محيا الرجل ابتسامة تشعرك بمكر بريء يسكن أعماقه…
السلام عليكم عمي العربي…كيف الحال؟ الحمد لله، لي عندو صحتو عندو كل خير…
سافرت مع عمي العربي في رحلة حالمة…عدنا إلى الزمن الجميل حيث كان الدوار عائلة واحدة…الكل يربي…الكل يواسي…الكل يفرح لفرح جاره…الكل يبسط يده للكل مساندا وداعما ومعينا…الكل يعيش الكفاف والعفاف…
جرنا الحديث إلى ما تتناقله وسائل الإعلام حول ما يعرفه العالم من أحداث كبرى…وفي مقدمتها الدمار الذي يعرفه قطاع غزة على أيدي الصهاينة، من قتل للأطفال والنساء والشيوخ وتجويع لأهلها…وعرجنا على المواجهة الجارية بين إسرائيل وإيران…والصراع الروسي الأوكراني…
كان عمي العربي يتحدث عن كل ذلك وقلبه يتقطع ألما وحسرة، لا على ما يقع في غزة فقط، ولكن أيضا على حال الأمة العربية والإسلامية، وعلى الإنسانية جمعاء، التي لم تستطع مساعدة أهل غزة…
عمي العربي لا يفقه في عالم وعلم الدبلوماسية، ولا يؤمن بالنظريات المتعلقة بفقه تدبير العلاقات الدولية، التي تدرس في أمهات الجامعات الغربية والشرقية، ولا بالقرارات الاستراتيجية للفاعلين الدوليين، ولا بمصالح الدول العليا والسفلى، ولا بالأمم المتحدة والأمم المتفرقة، ولا بمجلس الأمن…ولا بتخصيب الأورانيوم…يعرف فقط ثمن سكر القالب، وعلب الكبريت، والزيت من حجم نصف لتر…
قلت له: هل تعلم يا عمي العربي أن إسرائيل اليوم تتلقى ضربات صاروخية من اليمن ومن إيران بواسطة صواريخ فرط صوتية، وتلحق أضرارا واضحة بالعديد من المواقع بتل أبيب وبحيفا وبمطار بن غوريون وببئر السبع وبواد عربة، وبالعديد من المواقع الإسرائيلية…؟
صواريخ ماذا…؟ سؤال ماكر، مرفق بابتسامة عمي العربي المعهودة الأكثر مكرا…
لم أتمالك نفسي من الضحك…لأني أعرف مزاجية الرجل…كرر السؤال مرة أخرى …صواريخ ماذا…؟ ترددت في الإجابة… لكن أمام إلحاحه لم أستطع المقاومة…قلت متلعثما…صواريخ فرط صوتية… قال: ماذا يعني ذلك…؟ قلت هي صواريخ تعودنا سماعها في البيانات التي يلقيها يحيى سريع المتحدث العسكري باسم جماعة الحوثي باليمن، وأيضا وسائل الإعلام عند الحديث عن الصواريخ التي ترسلها إيران لإسرائيل… إنها صواريخ تتجاوز سرعتها 5 ماخ…زاد استغراب عمي العربي…وأضاف قائلا: ماذا…؟ ماخ…؟ ما قدك فرط صوتي زدتيني ماخ…
أسئلة ماكرة مرة أخرى لعمي العربي…أعرف أني سأصبح محل سخرية بين سكان الدوار، لأنه يتقن فن المزح والسخرية…وسيخبر جميع الزبناء عن الفرط الصوتي وعن الماخ…وعن تفاصيل حوارنا…كتمت ابتسامتي وواجهته بجواب حازم وجدي…الماخ…الماخ… يعني خمسة أضعاف سرعة الصوت…أي أن الصاروخ يعبر آلاف الكيلومترات في دقائق قليلة…
استوى عمي العربي على مقعده الخشبي…وظهرت على محياه الذي غزته تجاعيد الزمن العاثر، وبقايا خدوش من أيام الحصاد…وقال بصوت مبحوح، وبجدية ناذرا ما عهدته يتحدث بها…
يا ولدي… إن الصواريخ الفرط صوتية، هي تلك الوعود التي نتلقاها من بعض المرشحين زمن الانتخابات…وعود تتدلى كعناقيد عنب صالحة للعصر فقط…
يا ولدي…إن الصواريخ الفرط صوتية، هو ما نسمعه من أماني ومتمنيات، وزهر قرنفل، حول غد سيكون أفضل مما كان أمسه…
يا ولدي…إن الصواريخ الفرط صوتية، هو يقال عن توفير فرصة علاج لكل مواطن حسب إمكانياته…بعيدا عن الضمانات المطلوبة ليلج قاعة العمليات باحثا عن أجل جديد إن قدر له…
يا ولدي…إن الصواريخ الفرط صوتية، هو ذلك الحديث المتواصل عن مقعد في المدرسة لكل طفل في البوادي والحواضر …لا حجر يستند إليه في شوارع مدننا الراقية…
يا ولدي… إن الصواريخ الفرط صوتية، هي تلك التصريحات الخشبية التي تبشر كل نائي في الوطن، أن بإمكانه أن يسافر عبر تعرجات الوطن بسلام…
يا ولدي…إن الصواريخ الفرط صوتية هو ما نتلقاه من أخبار في كل يوم عن ارتفاع الأسعار بأعذار أكبر من الزلات…
يا ولدي…إن الصواريخ الفرط صوتية، هو ما تعرفه المؤتمرات والندوات والمناظرات بكل أنواعها ومسمياتها، من كلام أحلى من حلاوة قالب السكر الذي عاشرته لسنين في هذا الحانوت البئيس…لكونها سرعان ما تتحول إلا زبد بحري حين يتفرق القوم…
يا ولدي…إن الصواريخ الفرط صوتية، هي تلك الرحلة الجحيمية التي يقطعها المواطن البسيط بين ردهات الإدارات باحثا عن اسم وكنية…
يا ولدي …لقد تلقيت آلاف الصواريخ الفرط صوتية طيلة حياتي…لكنها لم تخرب حبي للوطن…ولا إخلاصي للمقدسات…سيستمر القصف بسرعة الماخ…وكلما ازداد القصف ازداد عشقي لك يا وطني…
يا ولدي…يجب أن تكون الصواريخ الفرط صوتية موجهة لما يخدم الوطن وأبناء الوطن…ويكون الماخ…غيرة لا متناهية على ثوابت الأمة الجامعة…