حين تصبح السياسة فنًّا لتدبير الانهيار
ليست السياسة ما نراه على الشاشات، بل ما يُحذف منها عمدًا. إنها الفن الذي حين يُفرغ من المعنى، يتحول إلى إدارة للفراغ.. لم تعد المشكلة في المغرب في “من يحكم”، لقد توافقت الأمة على ذلك منذ زمن بعيد، بل غدت المشكلة في ضمور الأسئلة، تواطؤ الصمت وهشاشة الخيال. لم نعد نختلف سياسيًا لأننا لم نعد نحلم جماعيًا. وما يُسمّى اليوم ممارسة سياسية، لا يعدو أن يكون إعادة إنتاج للبؤس بمفردات قديمة، بلا نار، بلا شعر وبلا شغف.
مدخل العطب: حين تصبح السياسة فنًّا لتدبير الانهيار
في لحظة ما من تاريخ المغرب، كانت السياسة وعدًا. كانت حلمًا بوطن جديد وحر، وحديثًا عن العدالة، الحرية والمساواة. كان السياسي يُنظر إليه لا كموظف ممتاز، بل كمايسترو موسيقي يحمل مفاتيح الأمل، يحوّل المعاناة إلى شرعية، ويترجم قلق الجماهير إلى مشاريع كبرى.
أما اليوم؟
فقد انهارت السياسة تحت وطأة السياسة ذاتها. صار السياسي مثل موظف في بلدية صغيرة في رأس الجبل أو في منفى جغرافي بئيس، لا يرفع رأسه عن الورق إلا ليلقي خطابًا ميتًا. صار الحزبي مهرجًا يتقن لعبة الولاءات. صار المواطن نفسه ساخرًا أكثر من اللازم، فاقدًا لأدنى إيمان، كأنّ شيئًا في الأعماق انكسر.. فماذا حدث؟ من خان من؟
هل خان المغاربة سياسييهم أم خان السياسيون أنفسهم قبل أن يخونوا الناس؟
السياسة كمهنة بلا أخلاق
في مغرب اليوم، غدت السياسة حرفة تُمارَس بلا شغف، بلا إيمان، بلا وجدان. تحوّل السياسي إلى “تقنوقراطي” بالعاطفة، لا يملك الجرأة ليكون “قائدًا” ولا الشجاعة ليكون “معارضًا” ولا النزاهة ليعترف أنه لا يملك شيئًا ليقوله.
منذ متى صارت السياسة إدارة مصالح؟ منذ متى غابت النخبة النقدية من البرلمان؟
متى كانت آخر مرة سمعنا فيها برلمانيًا يحكي عن المغرب بلغة الحب لا بلغة الملفات؟
لقد أُفرغت أغلب الأحزاب السياسة من المعنى، وتحولت إلى أدوات انتخابية تعيد إنتاج الرداءة. وحتى تلك التي تريد أن تحافظ على بكارتها وجدت نفسها أمام تناسل الرداءة التي قال عنها ارسطو: “الرداءة حين تتكاثف تتحول إلى قوة”، انجرفت مع التيار.. وبدلاً من أن تكون الحاضن الطبيعي للأفكار والاختلافات، أصبحت شبيهة بـ”مصحات سياسية” تعيد تدوير المهزومين والمهزوزين والمختلين سياسيا.
المعارضة المستأنسة: من زمن النضال إلى موسم النسيان
كانت المعارضة توقظ الغفلة فينا، تشبه إلى حد ما الشعراء في لحظة الجنون الجماعي. حين يبشرون بالحلم، بخلق أوهام دافئة.. اليوم، تشتغل المعارضة كأنها قسم داخلي في حكومة لا تصدق حتى نفسها.
لا نطالب المعارضة اليوم لتخرج إلى الشارع أو تعلن إضرابا عاما يشل كل القطاعات، وهي التي لم تنجح في تقديم ملتمس رقابة كان قرار اتخاذه أصلا بلا جدوى، لأن الزمان غير الزمان، لم يعد هناك بوعبيد ولا بوستة ولا ولعلو ولا الخليفة ليصدحوا ببلاغة عالية في القبة التشريعية، نطالبها فقط أن تكون صادقة ومع الناس، لا فوقهم؟
أين الأحزاب التي كانت توزع منشورات التوعية تحت أعمدة الضوء، وتخطب في الطلبة بالعربية والفرنسية والأمازيغية، في عز الرقابة والمنع؟
هل المعارضة اليوم معنية بشيء غير الانتخابات؟ هل تنتج فكرًا؟ مشروعًا؟ رؤية؟ أم أنها، مثل الحكومة، ضحية لعبة فقدت جوهرها: الصراع من أجل الأفضل.
اللغة السياسية: من “الوطن للجميع” إلى “سننظر في الأمر”
إن أكبر دليل على أزمة السياسة في المغرب اليوم، هو اللغة. لغة السياسيين خشبية أكثر من كراسيهم. لا تقول شيئًا، ولا تُشعل نارًا، ولا تُحرّك عاطفة. حتى الشعب فقد لذة الاستماع، وصار يحترف فن التجاهل.
البيانات تتشابه، الخطابات تُقص وتُلصق، الكلمات تسقط من الأفواه كما تسقط الأوراق من شجرة خريفية. وحين تموت اللغة، تموت السياسة.
فالكلام ليس زينة، بل وسيلة الارتباط الوحيدة بين الأحزاب والجمهور، بين النخبة والناس.
حين لا يسمع المواطن صوتًا يُشبهه، يذهب نحو الصمت، أو الهجرة، أو التطرف، أو… الضحك من كل شيء.
السياسي والمرآة: لماذا لم يعد المغربي يثق؟
الثقة؟ تلك الكلمة القديمة التي دفنتها الوعود الكاذبة والوجوه المتبدلة. من المسؤول عن موتها؟
السياسي الذي لا يستقيل حين يفشل؟ الحزب الذي لا يعتذر حين يخون؟ الوزير الذي يخرج من حقيبة إلى أخرى كما لو أنه سائح في فندق مغلق؟ تُبنى الثقة بالتضحيات، لا بالبرامج المعدّة سلفًا. تُمنح الثقة لمن يتحدث بصدق، لا لمن “يشتغل بجدّية” كما يُقال في المجالس الوزارية. مشكلة السياسة في المغرب أنها أصبحت خارج الوجدان. يُديرها رجالٌ بلا ملامح. يُناقشها إعلام بلا صدق. ويتابعها شعبٌ بلا انتباه.
السرديات المنهارة: من التحرر إلى التدبير
في السابق، كانت السياسة عندنا تحكي قصصًا. قصص التحرير، العدالة الاجتماعية، التعليم المجاني الشعبي الوطني والمساواة في الحقوق. أما اليوم، فقد انطفأ السرد. تحولنا إلى أمة تدير “الأوراش الكبرى” لكن بلا قصة.. وصولا إلى حكومة “تُفعّل التوصيات” لكنها لا تخلق المبادرات. إلى معارضة “تنتقد التمويل” ولا تقترح النموذج.
غياب الحكاية هو موت المعنى في السياسة. فالناس لا تحبّ السياسي لأنه نزيه فقط، بل لأنه راوية. لأنه يحكي لها ما لم تقدر على صياغته، يترجم قلقها، ويحوّله إلى طريق.
الشعبوية الجديدة: حين يصبح الساخر زعيما والساكت حكيمًا
في ظل هذا الفراغ الرمزي، ازدهرت الشعبوية. صارت السياسة مرآة مكسورة لا تعكس إلا ما يُضحك. صار النجم السياسي هو من يُجيد الحركات والنكات والسخرية الفارغة، لا من يُجيد الفكر.
لم يعد المغاربة يسألون عن البرنامج بل عن النكتة. عن الفضيحة لا عن الرؤية.
عمّن حضر الفضيحة، لا عمّن قال الحقيقة.
تآكلت المعايير، وصارت السياسة فايسبوكية، لحظية، قابلة للحذف والبلوك والنسيان.
وهنا تكتمل الكارثة: لم تعد السياسة منبرًا للحقيقة، بل مسرحًا للتسلية.
هل من مخرج؟
نعم. دائمًا هناك مخرج. لكن ليس بالخدع القديمة. نحتاج إلى نخبة جديدة لا تخاف من فقدان المناصب، بل تخاف من فقدان الإيمان بالوطن.
نحتاج إلى سياسيين يخرجون من مكاتبهم ويجلسون وسط الناس لا أمام الكاميرا.
نحتاج إلى أحزاب تُربّي لا تُجنّد. إلى برلمانيين يُبدعون لا يصفقون.
إلى مسؤولين يقرأون الأدب والفلسفة، لا فقط تقارير المؤسسات الدولية.
وبجملة: نحتاج إلى إعادة اختراع السياسة. ربما على يد الجيل الجديد، لا ليكرر كوارث السابقين، بل ليبتكر معنى جديدًا لا يُشبه ما عرفناه اليوم.
من سيحكي لنا حكاية السياسة من جديد؟
السياسة ليست مقبرة، لكنها اليوم متعبة. والسياسي ليس شيطانًا، لكننا نعيش فقدان الضوء.
الشعب المغربي ليس متآمرًا ولا غبيا، لكنه مجروح. مصاب بتراكم الخيبات وتخمة زيف الخطابات..
فلنحاول من جديد خلق مفهوم نبيل للسياسة، لكن بلا كذب، بلا استغباء، بلا شعارات.
فلنحاول أن نُعيد للسياسة معناها الأصلي: أن نكون معًا، نحلم، نختلف، ونبني.
بلا وصاية. بلا خوف. بلا وجوه متكررة. ربما حينها فقط، يستفيق الكائن السياسي فينا، والمواطن فيهم. لنبني وطنا نفخر بالانتساب إليه ويستحقنا.