في ظل تصاعد الصراع بين إيران وإسرائيل وتدخل الولايات المتحدة كفاعل رئيسي في منطقة الخليج، أثار الهجوم على قاعدة “العديد” الأمريكية في قطر جدلًا واسعًا لما يحمله من رسائل معقدة تتجاوز مجرد الاستهداف العسكري؛ إذ تقع القاعدة في دولة تُعتبر الأكثر توازنًا ومرونة في علاقاتها مع إيران ضمن مجلس التعاون الخليجي، وبينما طفت على السطح فرضية وجود تنسيق ضمني بين طهران والدوحة وواشنطن، فإن المشهد يعكس استراتيجية دقيقة لضبط التصعيد والحفاظ على مصالح كل الأطراف في ظل واقع إقليمي متوتر.
التحليل السياسي يملي علينا التوقف عند عدد من المؤشرات اللافتة. الهجوم لم يسفر عن أي ضحايا أو أضرار تذكر، في مشهد يُذكّر بالضربة الإيرانية على قاعدة “عين الأسد” في العراق عقب اغتيال قاسم سليماني، التي كانت أقرب إلى عرض مسرحي منها إلى عمل عسكري فعّال.
الدوحة اكتفت بإدانة الهجوم الذي استهدف قاعدة “العديد” الجوية من قبل الحرس الثوري الإيراني، واعتبرته “انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة قطر ومجالها الجوي، وللقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة”. أما واشنطن، فلم تُصعّد إعلاميًا، ولم نشهد أي تحرك عسكري أو خطاب ناري يعكس عادة الرد الأمريكي على استهداف مصالحها.
بل إن الرئيس الأمريكي شكر إيران على الإبلاغ المسبق بالهجوم، مما سمح بتجنّب سقوط ضحايا، على حدّ تعبيره. ومباشرة بعد “ضربة حفظ ماء الوجه”، أعلن ترامب وقفًا شاملًا لإطلاق النار بين طهران وتل أبيب، وكتب وهو يغلق الصفحة إلى حين آخر: “حفظ الله إسرائيل وإيران”.
هذه العناصر الثلاثة، إلى جانب استبعاد إيران الواضح لدول من دائرة الاستهداف (رغم تحالفها العلني مع إسرائيل)، تؤكد فرضية الرد الإيراني المحسوب بالتنسيق مع أطراف إقليمية ودولية، بغرض حفظ ماء الوجه الداخلي دون قلب الطاولة إقليميًا.
منذ سنوات، تمسك قطر بخط توازن دقيق في علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن، وتقاربها المستمر مع طهران. فإغلاقها لملف الأزمة الخليجية لم يُنهِ هذا التقارب، بل عزز موقعها كـ”مُترجم” يُتقن التحدث مع جميع الأطراف. في ظل هذه التفاهمات ما وراء الستار، كانت الدوحة على علم مسبق بشكل أو بآخر بموعد ومكان وحجم الرد الإيراني، بل ربما عملت على ضمان محدودية أثره ميدانيًا مقابل تحقيق هدفه الرمزي. من مصلحة قطر ألا تصاب البنية التحتية العسكرية الأمريكية عندها، لكنها تعلم في الوقت ذاته أن استقرار إيران الداخلي يتطلب شكلاً من أشكال الرد، ولو كان استعراضا مدروسًا.
السياسة الأمريكية تجاه إيران تتسم بازدواجية دائمة: خصومة علنية، ومصلحة استراتيجية في بقاء النظام الإيراني كعنصر توازن ردعي، خصوصا تجاه السعودية. واشنطن لا ترغب في انهيار مفاجئ للنظام الإيراني، لما سيجلبه من فوضى إقليمية وفتح الأبواب أمام سيناريوهات غير محكومة. من هذا المنظور، فإن ضربة شكلية لقاعدة أمريكية في منطقة “آمنة سياسيًا” مثل قطر، تظل مقبولة في إطار سيناريو الرد المحدود، وتتيح للبيت الأبيض الإبقاء على وتيرة التصعيد تحت السيطرة، دون فتح أبواب حرب إقليمية لا أحد مستعد لها.
الحقيقة الجوهرية هي أن إيران في هذه المرحلة لا تبحث عن المواجهة، بل عن إثبات الوجود. نظام الملالي يعاني من ضغط داخلي متصاعد، وفقدان نسبي للهيبة بعد الضربات المتكررة التي تلقاها على يد إسرائيل في العمق الإيراني. ولأن سقوطه خطر على الجميع، من إسرائيل إلى الولايات المتحدة مرورًا بروسيا والصين، فإن الحل الأمثل هو تمكينه من القيام بحركات رمزية تحافظ على تماسكه الداخلي، دون تهديد فعلي لمعادلات القوة الإقليمية.
في الختام، كلهم ربحوا… شعبيًا. إيران قالت لشعبها: “لقد رددنا” وأقامت احتفالات بالنصر. قطر قالت لحلفائها: “أبقينا الوضع تحت السيطرة”. أمريكا قالت لنفسها: “الحلفاء ما زالوا موالين، والنظام الإيراني ليس بحاجة لإسقاط”. أما إسرائيل، فمستمرة في استنزاف إيران داخل حدودها دون عواقب إقليمية حقيقية.
إنه توازن الضعف المحسوب، الذي تتقنه طهران وتستثمر فيه الدوحة، وتستغله واشنطن لتثبيت وضع إقليمي هشّ لكنه قابل للاستمرار، طالما بقيت الضربات رمزية، والخسائر صفرية، والخطوط الحمراء محترمة.