على هامش الدورة الـ 51 لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي المنعقدة بمدينة إسطنبول، أجرى وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، مباحثات ثنائية مع نظيره الموريتاني، محمد سالم ولد مرزوك، في لقاء يندرج ضمن سلسلة تحركات دبلوماسية تقوم بها الجزائر في اتجاه نواكشوط.
اللقاء الذي وصفته الخارجية الجزائرية بأنه بحث في “سبل تعميق علاقات الأخوة والشراكة والتكامل”، يفضح المساعي الجزائرية الهادفة إلى إقحام قضية الصحراء المغربية في أجندات الحوار مع نواكشوط، ومحاولة التأثير على موقفها المتزن والمتحفظ، الذي ظل حريصا في السنوات الأخيرة على تعزيز التعاون مع الرباط وتفادي الاصطفاف في صراع إقليمي شائك.
وبحسب بيان للخارجية الجزائرية، فإن اللقاء تناول عددا من القضايا المدرجة على جدول أعمال الاجتماع الوزاري، إلى جانب بحث سبل تعزيز التعاون الثنائي، غير أن توقيت اللقاء وسياقه الإقليمي يحملان مؤشرات على رغبة جزائرية في التأثير على التقارب المغربي الموريتاني وموقف نواكشوط المبني على “الحياد الإيجابي”.
تأتي هذه التحركات في وقت تعرف فيه العلاقات المغربية الموريتانية زخما متزايدا، تجسده شراكات استراتيجية ومبادرات كبرى، من بينها مشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، ومبادرة تسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، وهي مشاريع تعكس عمق الانخراط الموريتاني في رؤية مغربية شاملة للتنمية الإقليمية.
ويبرز هذا اللقاء كحلقة جديدة في مساعي الجزائر الحثيثة لإعادة رسم التوازنات الجيو-سياسية بالمنطقة بما يخدم تصورها في النزاع الإقليمي المفتعل، ومحاولة فك العزلة التي يواجهها النظام الجزائري إثر توتر علاقاته مع عدد من دول الساحل والصحراء.
ومع تنامي الدور المغربي كفاعل موثوق في قضايا الأمن والتنمية بالمنطقة، تزداد التحديات أمام أي محاولات لإعادة تشكيل المواقف أو التأثير في علاقات نواكشوط الخارجية، خاصة أن موريتانيا باتت تنظر إلى المغرب كشريك استراتيجي في مواجهة رهانات الاقتصاد والاستقرار.
توازن دبلوماسي
قال أحمدو ولد النباش، مدير نشر وكالة “موريتانيا اليوم”، إن اللقاء الذي جمع وزير الشؤون الخارجية الموريتاني بنظيره الجزائري على هامش الدورة الـ 51 لمجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، يأتي في إطار علاقات موريتانيا الثنائية مع محيطها المغاربي، ولا يعكس بالضرورة أي تغيير في موقفها الحيادي والمتوازن تجاه القضايا الخلافية في المنطقة.
وأوضح ولد النباش، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن بعض القراءات التي أثيرت عقب اللقاء تسقط في التأويل، بينما النظرة الدقيقة للمسار الدبلوماسي الموريتاني تُظهر حرصا دائما على إمساك “العصا من الوسط”، وعلى الحفاظ على مسافة واحدة من جميع الأطراف؛ وهو الشيء الذي يعزز سياسة الواقعية التي تقوم على التقارب مع الأشقاء ودعم أجواء الحوار والانفتاح.
وأكد الإعلامي الموريتاني أن هذا اللقاء ليس بمعزل عن سلسلة لقاءات سابقة عقدها وزير الخارجية الموريتاني مع نظيره المغربي، سواء في الرباط أو في محافل دولية أخرى؛ ما يؤكد أن نواكشوط تلتزم بسياسة خارجية متوازنة تراعي طبيعة علاقاتها التاريخية مع كل من الجزائر والمغرب، وتركز على وحدة المصير المغاربي وأمن المنطقة واستقرارها.
وسجل المدير الناشر لوكالة “موريتانيا اليوم” أن هذا التوجه الموريتاني تجسد عمليا في التعاون المتنامي مع البلدين الشقيقين، سواء عبر تنظيم المعارض التجارية والاقتصادية والثقافية المشتركة، أو من خلال القمم التي جمعت الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بكل من الملك محمد السادس والرئيس عبد المجيد تبون، “في دلالة واضحة على أن موريتانيا ترفض الاصطفاف وتؤمن بأهمية الحوار المتوازن في خدمة مصالح شعوب المغرب العربي”.
“مراكمة التوتر”
سعيد بوشاكوك، باحث مهتم بقضايا التنمية والمجال، أكد أن السلوك السياسي والدبلوماسي الذي تنهجه الجزائر تجاه الوحدة الترابية للمملكة المغربية لم يتغير منذ عقود؛ إذ ما تزال تعمل، في خرق سافر لأبسط مبادئ القانون الدولي، على استغلال كل المنصات والمؤتمرات الإقليمية والدولية من أجل محاولة تمرير خطابها العدائي تجاه المغرب، ضاربة عرض الحائط بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وبقواعد حسن الجوار التي تعد من ركائز الاستقرار المغاربي.
وأضاف بوشاكوك، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن ما قامت به الجزائر على هامش الاجتماع الـ 51 لوزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي بإسطنبول، من خلال اللقاء الجانبي الذي جمع وزير خارجيتها بنظيره الموريتاني، يدخل ضمن مساعٍ دؤوبة لتليين موقف نواكشوط المتوازن من نزاع الصحراء المغربية، ومحاولة جره نحو انحياز مفضوح يخدم أجندة تبتعد كليا عن منطق الحل وتغذي استراتيجية الإبقاء على الوضع القائم.
وذكر أن بيان المنظمة الإسلامية كان واضحا من خلال الفقرة 23 التي شددت على ضرورة احترام سيادة الدول الأعضاء ووحدتها الترابية واستقلالها؛ وهو ما يفضح التناقض الصارخ بين ما تسعى الجزائر إلى تسويقه وما يثبته الإجماع الدولي بشأن احترام الحدود الوطنية وعدم التدخل في القضايا السيادية للدول الأخرى.
واعتبر المتخصص في نزاع الصحراءأن الجزائر بمحاولاتها التأثير على الموقف الموريتاني المتزن، تسعى إلى تكرار سيناريو الضغط الممارس سابقا على تونس؛ وهو النموذج ذاته الذي أفرز نتائج سلبية جعلت تونس في عزلة دبلوماسية واضحة، في وقت اختارت فيه موريتانيا التموقع العقلاني والانفتاح على المبادرات المغربية ذات الأثر التنموي والجيو-سياسي الإيجابي.
وفي هذا السياق، أورد بوشاكوك أن التنافس الحالي في المنطقة بات بين منطق الشرعية ومنطق المناورة، وأن المنتظم الدولي أصبح أكثر وعيا بكون الجزائر لا تبحث عن حل واقعي ودائم للنزاع، بل تكرس سياسة “اللاحل” كأداة لخدمة أجندة عدائية مستمرة تجاه المغرب ووحدته الترابية.
“إن ثمار العمل المشترك والتعاون البناء بين المغرب وموريتانيا، رغم محاولات التشويش والمضايقة، تتجلى بوضوح في الإرادة السياسية لدى قيادتي البلدين لتطوير هذه العلاقات ومأسستها، من خلال آليات مثل اللجنة العليا المشتركة والمنتدى الاقتصادي المغربي الموريتاني، إلى جانب التعاون في مجالات الدفاع المشترك”، يسجل الخبير ذاته قبل أن يضيف أن “الجارة الموريتانية تدرك جيدا أن مصالحها الاستراتيجية ومنافعها الاقتصادية والسياسية تتقاطع واقعيا مع المغرب؛ وهو ما يفسر جسور التواصل والتبادل كدعامة استراتيجية لحسن الجوار والتكامل الإقليمي”.
وأنهى سعيد بوشاكوك حديثه لهسبريس بالتأكيد أن بروز جيل جديد من النخب الموريتانية المؤمنة بالمصير المشترك مع المغرب، يجعل من تقوية دعامات التعاون الثنائي رهانا حقيقيا لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية، ولتثبيت التعاون جنوب-جنوب كمنصة لتعزيز قوة القارة الإفريقية واستقلال قرارها التنموي والجيو-سياسي.