في سياق تزايد الاهتمام الأكاديمي والسياسي بظاهرة الشعبوية، نظّم المركز الدولي للدراسات في الإعلام والتنمية ومركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، أمس الاثنين بالمعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط، يوما دراسيا حول موضوع “الشعبوية في عالم اليوم.. تحديات ورهانات”.
وقد ناقش المشاركون في هذا اليوم الدراسي، من باحثين وأساتذة جامعيين، مختلف أبعاد الشعبوية من حيث المفهوم والممارسات والخطابات، مع التركيز على علاقتها بالتواصل السياسي، وبنية السلطة، وتحول الفضاء العمومي، وكذا انعكاساتها على الديمقراطية والعلاقات الدولية. اللقاء قدّم قراءات متعددة لشعبويات متباينة؛ أبرزها حالتا إسرائيل وإيران.
كما توقف اليوم الدراسي عند الخصائص النفسية للقادة الشعبويين، والتحديات التي تفرضها هذه الظاهرة على الفاعلين السياسيين والمؤسسات التمثيلية التقليدية.
في افتتاح اللقاء، شدد عبد الله ساعف، رئيس مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، على أهمية توضيح المفاهيم المستعملة في الخطاب العمومي حول الشعبوية، محذرا من الاستخدام الفضفاض للمصطلح داخل القاموس السياسي المغربي دون تحديد دقيق.
وأشار ساعف إلى تعدد أنواع الشعبويات، من “شعبوية الشعوب” إلى “شعبوية الدول”، مبرزا أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد اتجاه عرضي؛ بل باتت تُهيكل الحقل السياسي وتؤثر على مساراته.
من جانبه، تناول محمد عبد الوهاب العلالي، رئيس المركز الدولي للدراسات في الإعلام والتنمية، موضوع “الشعبوية ومتاهات التواصل السياسي”، موضحا كيف تعتمد الحركات الشعبوية على خطاب عاطفي مباشر يتجاوز الوسائط المؤسساتية التقليدية.
وأكد العلالي أن الشعبوية تقوض أشكال التواصل السياسي الكلاسيكي؛ من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وخطاب بسيط موجه مباشرة إلى “الشعب الصادق” ضد “النخب الفاسدة”.
وفي دراسة حالة قارنت بين الخطاب الشعبوي في إسرائيل وإيران، أبرز العلالي أن هناك تقاطعات بنيوية عميقة رغم الاختلاف الظاهري، تتجلى في خطاب المظلومية والتبشير بالخلاص واستئصال الخصم، إضافة إلى تراجع دور المؤسسات وهيمنة الزعيم الكاريزمي وتغذية سردية الصراع العقائدي؛ مما يشكل خطرا داهما على استقرار المجتمعات والديمقراطيات.
من جانبه، ركز عبد الحميد بنخطاب، رئيس الجمعية المغربية للعلوم السياسية، في مداخلته، على غياب تعريف موحد للشعبوية، مشيرا إلى أن الظاهرة تتراوح بين كونها خطابا وأسلوبا أو استراتيجية سياسية لا تملك جوهرا متماسكا، بل تقوم على دغدغة المشاعر واستغلال العواطف.
ولفت بنخطاب إلى أن الشعبويين غالبا ما يشيطنون النخب والإعلام والمؤسسات المالية، ويقدمون أنفسهم كصوت الشعب المخدوع والمستغَل، متسائلا: “هل امتلك الشعب يوما سلطة حقيقية؟ أم أنها مجرد طوباوية”.
في طرح مغاير، اعتبر الباحث عمر بنجلون أن الشعبوية ليست أيديولوجية متكاملة، بل أداة خطابية وظّفها النظام الرأسمالي العالمي لتشويه البدائل السياسية الناشئة.
وأضاف بنجلون أن الشعبوية تعمل على تفعيل الوعي الفطري للجماهير، من خلال تقديم حلول ظاهرها مبسط وجاذب؛ لكنها تفتقر للعمق.
وتساءل الباحث ذاته إن كان النموذج المغربي، في شخصيات سياسية مثل عبد الإله بنكيران، يمثل مثالا على استعمال الشعبوية من موقع الأغلبية كما من موقع المعارضة.
من جهته، تحدث إسماعيل حمودي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، عن الشعبوية على المستوى الدولي، متسائلا إن كنا بصدد نظام دولي شعبوي. وقدم أربع مقاربات لتحليل صعودها؛ منها الشعبوية كإيديولوجية أو كأسلوب أو استراتيجية سياسية.
وأبرز حمودي كيف تستفيد الحركات الشعبوية من علم النفس السياسي في صياغة شخصية الزعيم، مستعرضا نتائج دراسات قارنت بين دونالد ترامب وهوغو تشافيز، والتي أظهرت تشابهات في السمات الشخصية كالتركيز على العلاقات الشخصية وانخفاض الاهتمام بالمهام المؤسساتية.
ورغم التخوفات المرتبطة بصعود الأحزاب الشعبوية، فإن الأستاذ الجامعي المتخصص في العلوم السياسية أبرز أن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى تصعيد النزاعات الدولية؛ لكنه يُضعف المنظومة الليبرالية القائمة، ويهدد بتآكل التعددية الديمقراطية.
وأجمع المشاركون على أن الشعبوية ليست ظاهرة عابرة؛ بل إنها خطاب يتغذى من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، ويطرح تحديات جدية على الديمقراطية والمؤسسات التقليدية.
جدير بالذكر أن تنظيم هذا اللقاء العلمي يأتي في سياق وطني ودولي يتسم بصعود الحركات الشعبوية؛ مما يمنح المبادرة راهنيّة خاصة في الحقلين السياسي والإعلامي، ويكرّس دور الجامعة ومراكز التفكير في مواكبة التحولات العميقة التي يعيشها عالم اليوم.