يشهد العالم تحولًا غير مسبوق بفضل الذكاء الاصطناعي، الذي أصبح محركًا رئيسيًا لتغيير ديناميكيات الصناعات وتعزيز الإنتاجية الاقتصادية، فقد أظهرت دراسة لشركة (PWC)، تحمل عنوان: (مؤشر وظائف الذكاء الاصطناعي العالمي لعام 2025) 2025 Global AI Jobs Barometer، قدرة الذكاء الاصطناعي الكبيرة على تسريع وتيرة العمل، ومضاعفة نمو الإنتاجية أربع مرات في أكثر القطاعات استعدادًا لتبنيه.
كما كشفت الدراسة عن أن الذكاء الاصطناعي قد مكن الموظفين من المطالبة بأجور أعلى بنسبة تصل إلى 56%، مع استمرار ارتفاع أعداد الوظائف حتى في الوظائف التي كانت تُعدّ أكثر عرضة للأتمتة، مما يدحض العديد من المخاوف الشائعة حول مستقبل الوظائف. وبينما يمثل هذا التطور دفعة قوية للشركات، يثير تساؤلات حاسمة حول تأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل.
تحليل تأثير الذكاء الاصطناعي في الوظائف:
استندت دراسة (PWC) إلى تحليل ما يقرب من مليار إعلان وظيفي وآلاف التقارير المالية للشركات في ست قارات، مما يوفر رؤية واسعة النطاق لتأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل.
وللوقوف على هذا التأثير، استندت شركة (PwC) في تحليها على نوعين رئيسيين من الوظائف، وهما:
- الوظائف القابلة للتعزيز (Augmentable Jobs): وهي تلك الوظائف التي تحتوي على العديد من المهام التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم فيها الحكم البشري والخبرة، مما يعزز الإنتاجية والكفاءة.
- الوظائف القابلة للأتمتة (Automatable Jobs): وتشمل الوظائف التي تتألف من مهام يمكن للذكاء الاصطناعي إنجازها بنحو مستقل، مما يثير تساؤلات حول مستقبل هذه الأدوار.
الذكاء الاصطناعي يعزز نمو الإيرادات والإنتاجية:
كشفت الدراسة أن أن الذكاء الاصطناعي قد جعل الموظفين أكثر إنتاجية، فقد شهد نمو الإنتاجية قفزة نوعية في أكثر القطاعات استعدادًا لتبني الذكاء الاصطناعي التوليدي، إذ تضاعف هذا النمو أربع مرات تقريبًا في قطاعات مثل: الخدمات المالية وتطوير البرمجيات، مرتفعًا من نسبة قدرها 7% في المدة الممتدة من عام 2018 إلى عام 2022 ليصل إلى نسبة قدرها 27% خلال المدة الممتدة من عام 2018 إلى عام 2024.
وعلى النقيض من ذلك، شهدت أقل القطاعات استعدادًا لتبني الذكاء الاصطناعي، مثل: التعدين والضيافة، تراجعًا طفيفًا في معدل نمو الإنتاجية خلال المدة ذاتها، إذ انخفض من 10% إلى 9%.
بالإضافة إلى ذلك، سجلت القطاعات التي اعتمدت على الذكاء الاصطناعي زيادةً كبيرة تبلغ ثلاثة أضعاف في الإيرادات لكل موظف، وتُبرز هذه الأرقام الفجوة المتزايدة بين القطاعات التي تتبنى الذكاء الاصطناعي وتلك التي تتأخر في هذا المجال.
ويشير هذا النمو الملحوظ إلى أن الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي تؤتي ثمارها بفاعلية، ويؤكد أن الوعود المتعلقة بقدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث نقلة نوعية بدأت تتحقق على أرض الواقع، مع أننا ما زلنا في المراحل الأولية لتبني هذه التقنية.
حقيقة سوق العمل.. الذكاء الاصطناعي يوفر الوظائف لا يسرقها:
خلافًا للمخاوف السائدة بشأن فقدان الوظائف بسبب الأتمتة، لم تجد الدراسة أي دليل على سرقة الذكاء الاصطناعي للوظائف أو تدهور الأجور نتيجة لتبنيه.
فبينما شهدت أقل المهن ارتباطًا بالذكاء الاصطناعي نموًا وظيفيًا قويًا بلغ 65% خلال المدة الممتدة من عام 2019 إلى عام 2024، ظل النمو قويًا حتى في أكثر المهن ارتباطًا به إذ وصل إلى 38%.
وقد صنفت الدراسة هذه المهن إلى فئتين رئيسيتين، وهما: الوظائف القابلة للأتمتة، التي تتضمن مهامًا يمكن للذكاء الاصطناعي تنفيذها جزئيًا أو كليًا، والوظائف القابلة للتعزيز، التي يساعد فيها الذكاء الاصطناعي الإنسان في أداء عمله بنحو أفضل وأكثر كفاءة.
وقد أظهرت الدراسة أن أعداد الوظائف في كلا التصنيفين آخذة في الازدياد خلال المدة الممتدة من 2019 إلى 2024، مع نمو أسرع بنحو عام للوظائف المعززة.
مكاسب الأجور ومكافآت المهارات.. دليل على ارتفاع القيمة:
أظهرت الدراسة أن الأجور تنمو بضعف السرعة في أكثر الصناعات تبنيًا للذكاء الاصطناعي مقارنة بتلك الأقل تبنيًا، وهذا يشمل كلًا من الوظائف القابلة للأتمتة والوظائف القابلة للتعزيز.
وكشفت البيانات أيضًا أن الوظائف التي تتطلب مهارات الذكاء الاصطناعي تتمتع بمكافأت ملحوظة مقارنة بالأدوار المماثلة التي لا تتطلب هذه المهارات، وقد ارتفع متوسط هذه المكافأة إلى 56% هذا العام، بعد أن كان 25% فقط العام الماضي.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل تستمر الوظائف التي تتطلب مهارات الذكاء الاصطناعي في النمو بوتيرة أسرع من جميع الوظائف الأخرى، إذ زادت بنسبة قدرها 7.5% مقارنة بالعام الماضي، وذلك حتى في الوقت الذي انخفض فيه إجمالي إعلانات الوظائف بنسبة بلغت 11.3%.
تسارع تغير المهارات وتراجع متطلبات الشهادات الأكاديمية:
بينما تُعدّ الصورة العامة للإنتاجية والأجور والوظائف إيجابية، تؤكد الدراسة الحاجة الملحة للعمال والشركات للتكيف مع وتيرة التغيير بسرعة، إذ تتغير المهارات التي يطلبها أصحاب العمل أسرع بنسبة 66% في المهن الأكثر تعرضًا للذكاء الاصطناعي، وهو ارتفاع كبير من 25% العام الماضي.
كما وجدت الدراسة أن طلب أصحاب العمل للشهادات الرسمية آخذ في التناقص لجميع الوظائف، ولكن بنحو خاص وبسرعة كبيرة للوظائف التي تتطلب مهارات الذكاء الاصطناعي، فعلى سبيل المثال، انخفضت نسبة الوظائف التي يعززها الذكاء الاصطناعي وتتطلب شهادة جامعية بمقدار 7 نقاط (من 66% إلى 59%) بين عامي 2019 و2024، وبمقدار 9 نقاط (من 53% إلى 44%) للوظائف التي يؤتمتها الذكاء الاصطناعي.
وتشير الدراسة أيضًا إلى أن تأثير الذكاء الاصطناعي قد لا يكون متساويًا بين الجنسين؛ ففي كل بلد شملتها الدراسة، يزيد عدد النساء عن الرجال في الوظائف التي تتطلب مهارات الذكاء الاصطناعي، مما يشير إلى أن ضغط المهارات الذي تواجهه النساء سيكون أعلى.
الخلاصة:
تُظهر دراسة (PwC) لعام 2025، أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل محرك أساسي للنمو الاقتصادي وتحسين القوى العاملة، فمع زيادة الإنتاجية والإيرادات، ونمو الوظائف ذات المهارات العالية، يُعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي.
ومع استمرار هذا التحول، يُتوقع أن تتسع الفجوة بين الصناعات التي تتبنى الذكاء الاصطناعي وتلك التي تتخلف عن الركب، مما يجعل التكيف مع هذه التكنولوجيا أمرًا حتميًا لتحقيق النجاح في المستقبل.
ويبقى السؤال: كيف ستستفيد الصناعات والمجتمعات من هذه الموجة التحويلية لضمان مستقبل مزدهر للجميع؟
نسخ الرابط تم نسخ الرابط