في دواوير تيسة، المدينة الواقعة في عمق إقليم تاونات، تتكرر يوميًا مشاهد الأواني الفارغة وصفوف النساء والأطفال الباحثين عن جرعة ماء وسط العطش والإهمال. لم تعد الأزمة موسمية؛ بل تحوّلت إلى معاناة مستمرة تشتد مع كل صيف وتُضاعفها موجات الحر المتلاحقة. هذه المنطقة، التي تُعدّ من بين الأكثر تضررًا من شح المياه في شمال المغرب، تواجه آثار الجفاف المزمن، إلى جانب تعثر مشاريع الربط بشبكات التزويد العمومي. في القرى النائية، يضطر السكان إلى قطع مسافات طويلة لجلب كميات محدودة من الآبار، أو إلى شراء المياه عبر صهاريج تُعرف محليًا بـ”البيدوزات”، في مشهد يُلخص إحساسًا عميقًا بالتهميش وغياب العدالة المجالية.
وقال سكان محليون إن أزمة المياه التي تخنق دواوير تيسة لم تعد مجرد خلل عابر في التزويد؛ بل صارت علامة على فشل في الاستجابة العادلة لحاجياتهم الأساسية. إن المعاناة اليومية في تأمين كميات محدودة من الماء، سواء عبر الآبار الجافة أم عبر اقتناء “البيدوزات”، كشفت – في نظرهم – عن اختلالات عميقة في توزيع الموارد وغياب رؤية تنموية شاملة تراعي طبيعة المنطقة وحاجياتها.
بالنسبة لهؤلاء، لم يعد الأمر يتعلق بندرة طبيعية فقط؛ بل بإهمال ممنهج يعمّق الفوارق المجالية ويهدد شروط العيش الكريم.
ويُجمع هؤلاء السكان على أن ما يُوزّع عليهم من مياه عبر “البيدوزات” لا يرقى إلى الحد الأدنى من حاجاتهم اليومية، إذ غالبًا ما تكون الكمية المخصّصة لكل أسرة ضئيلة ولا تكفي سوى لسد العطش، تاركة باقي الاحتياجات في خانة المؤجّل أو المتروك.
وأفاد هؤلاء المصرحون أنفسهم بأن الفلاحة، التي كانت تشكل مورد عيش رئيسي لسكان المنطقة، تراجعت بشكل مهول نتيجة هذا الشح المزمن؛ وهو ما انعكس أيضًا على مربي الماشية الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن توفير المياه لقطعانهم.
في نظرهم، التوزيع الحالي لا يعكس مبدأ العدالة؛ بل يعمّق الإحساس بالهشاشة ويهدّد الاستقرار الاجتماعي في المدى المنظور.
معاناة مستمرة
قال عبد النبي، فلاح بأحد دواوير تيسة، إن معاناة السكان مع الماء باتت يومية ومقلقة، خاصة خلال الأشهر الحارة التي ترتفع فيها الحاجيات بشكل كبير، سواء بالنسبة للإنسان أم للمزروعات.
وأوضح الفلاح ذاته، في حديثه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن ضعف التزود بالماء أثّر بشكل مباشر على النشاط الفلاحي البسيط الذي تعتمد عليه معظم الأسر القروية كمصدر رزق أساسي.
وأضاف المصرح عينه: “الناس كيعانيو بزاف باش يلقاو الماء، حتى باش تسقي الزريعة ولا تعمر جفنة للبهائم ولات عملية شاقة”، مشيرا إلى أن بعض الجيران اضطروا إلى حفر آبار ضحلة رغم تكلفتها المرتفعة؛ غير أنها لا تمثل حلاً دائمًا، بل مجرد محاولة يائسة لسد حاجيات متزايدة في ظل غياب حلول جذرية ومستدامة.
وأكد عبد النبي أن الوضع يزداد تعقيدًا مع مرور الوقت، في ظل غياب استراتيجيات واضحة وفعّالة من الجهات المعنية، مشددًا على أن “المواطن البسيط ما بقاش عارف واش يحافظ على البذور ولا يشري صهريج الما”. وأبرز الفلاح أن تراجع منسوب المياه في المنطقة لم يقتصر تأثيره على النشاط الفلاحي؛ بل امتد ليطال تفاصيل الحياة اليومية، حيث أصبحت الأسر تُقنّن استعمال الماء حتى في الطهي والنظافة، بينما يُجبر بعض التلاميذ أحيانًا على التغيب عن الدراسة لمرافقة ذويهم في جلب الماء، في مشهد يُنذر بتداعيات اجتماعية عميقة إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه.
وتابع عبد النبي أن ساكنة تيسة لا تطالب بالمستحيل؛ بل بحقها المشروع في التوفر على ماء نظيف وكافٍ يضمن الحد الأدنى من شروط العيش الكريم.
ودعا المتحدث عينه السلطات المحلية والمكتب الوطني للكهرباء والماء إلى تسريع وتيرة الإصلاحات، وربط المنازل والمزارع بشبكات التزويد، متسائلًا بأسى: “حنا ماشي مواطنين من درجة ثانية، وعلاش تيسة تبقى ديما منسية؟”.
وختم المصرح ذاته بالتشديد على أن استمرار الوضع على ما هو عليه قد يدفع بالمزيد من الأسر إلى النزوح نحو المدن، بحثًا عن أبسط مقومات الحياة، ما لم تُتخذ تدابير عاجلة تراعي الهشاشة وتنتصر لكرامة الساكنة.
من جانبه، اعتبر الفاعل الحقوقي سعيد البوزيدي أن ما تعانيه دواوير تيسة من خصاص حاد في مياه الشرب يُعد انتهاكًا صريحًا لحق من الحقوق الأساسية للإنسان، مؤكدًا أن الحق في الماء مكفول بموجب المواثيق الدولية وكذا الدستور المغربي.
وأوضح البوزيدي، في تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الأزمة الحالية لا يمكن اختزالها فقط في التغيرات المناخية أو ضعف التساقطات؛ بل تعكس اختلالات بنيوية مرتبطة بسوء تدبير الموارد المتاحة، وغياب الإنصاف المجالي في برمجة المشاريع المتعلقة بالبنيات التحتية المائية.
وأشار الفاعل الحقوقي إلى أن تيسة، رغم قربها النسبي من سدود ومحطات مائية، لم تستفد بشكل عادل من الاستثمارات العمومية في هذا المجال؛ مما جعل العديد من الدواوير تعيش حالة عطش هيكلية.
واعتبر المتحدث عينه أن استمرار هذا الوضع يعكس تهميشًا ممنهجًا للمجالات القروية، داعيًا إلى مراجعة السياسات المائية على المستوى المحلي والإقليمي، وضمان إشراك الساكنة في بلورة الحلول الكفيلة بتجاوز الأزمة.
وأضاف أن “الحكامة في قطاع الماء يجب أن تنتقل من الشعارات إلى الأفعال؛ لأن الماء مسألة حياة أو موت، لا تقبل التأجيل”.
وشدّد على أن معالجة هذا الوضع لا تمر عبر الشعارات؛ بل عبر التزام حقيقي من الجهات المعنية، يضمن التوزيع العادل للموارد ويستجيب لانتظارات المواطنين في المناطق المهمشة.
وختم البوزيدي تصريحه بالتأكيد على أن أزمة العطش التي تعاني منها ساكنة تيسة لا ينبغي أن تظل رهينة للخطابات الرسمية أو المناسباتية، معتبرًا أن الواقع يتطلب إجراءات ملموسة وفعالة تُعيد الاعتبار للحق في الماء باعتباره حقًا أساسيًا غير قابل للتفاوض.p