الوضوء هو طهارة مائية واجبة لأداء الصلاة، وردت فرضيته في القرآن الكريم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].
ويشكل الترتيب بين أعضائه موضوعًا فقهيًا دقيقًا، خاصة فيما يتعلق بتقديم اليسرى على اليمنى أثناء الغسل.
حكم الترتيب بين أعضاء الوضوء
أجمع الفقهاء على أن الوضوء له أركان أساسية واجبة وهي: غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين. أما الترتيب بين هذه الأركان الأربعة فهو واجب عند جمهور العلماء (الحنفية والمالكية والحنابلة)، بمعنى أن يبدأ بالوجه ثم اليدين فالرأس فالرجلين. ويدل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الأحاديث، حيث كان يرتب أعضاء الوضوء بهذا التسلسل.
التفصيل في ترتيب غسل اليدين والرجلين (اليمنى قبل اليسرى)
عند التطرق لترتيب غسل اليدين بعضهما ببعض، أو الرجلين بعضهما ببعض، فإن الصورة تتغير:
الإجماع على عدم الوجوب: كما أكد الدكتور عطية لاشين - أستاذ الفقه والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر - فإن أهل العلم مجمعون على أن الترتيب بين اليمنى واليسرى من اليدين أو من الرجلين ليس واجبًا. فمن غسل يده اليسرى قبل اليمنى، أو قدمه اليسرى قبل اليمنى، فإن وضوءه صحيح ولا إشكال فيه.
التعليل الفقهي: سبب هذا الحكم أن الفقهاء يعتبرون اليدين عضواً واحداً في حكم الوضوء، وكذلك الرجلين عضواً واحداً. والأصل في العضو الواحد أنه لا يجب الترتيب في غسل أجزائه، فكذلك لا يجب الترتيب بين اليمنى واليسرى من اليدين أو الرجلين، بل يكفي غسلهما معًا أو بأي ترتيب.
حكم من نُصح بإبطال وضوئه لهذا السبب: من توضأ فغسل يده اليسرى قبل اليمنى أو قدمه اليسرى قبل اليمنى، ثم قيل له إن وضوءه باطل، فإن هذا القول يخالف الإجماع كما أكد د. لاشين، وهو قول باطل لا أصل له في الشرع.
حكم الترتيب بين اليمنى واليسرى: سنة لا واجب
بينما لا يعد الترتيب (اليمين قبل اليسار) واجبًا، فإنه سنة مؤكدة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقد وردت الأحاديث الصحيحة التي تصف وضوءه بأنه كان يبدأ باليمين في اليدين والرجلين.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ" (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا لَبِسْتُمْ، وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ، فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ" (رواه أبو داود والترمذي وحسنه).
أثر مخالفة السنة في الترتيب
صحة الوضوء: مخالفة هذه السنة - أي غسل اليسرى قبل اليمنى في اليدين أو الرجلين - لا تبطل الوضوء مطلقًا. فالعبادة تظل صحيحة مقبولة إن توفرت فيها الأركان والشروط والموالاة (عدم الفصل الطويل بين غسل الأعضاء).
الحرمان من الأجر: ما يترتب على مخالفة هذه السنة هو فوات أجر اتباع السنة وإحيائها. فالمتوضئ يحصل على أجر الوضوء الكامل، لكنه يفوت عليه الأجر الإضافي المترتب على الموافقة التامة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل جزئية.
مبطلات الوضوء المتفق عليها
بعد توضيح مسألة الترتيب، من المهم ذكر الأمور التي تبطل الوضوء فعلاً والتي يجب عند حصولها إعادة الوضوء للصلاة: خروج شيء من السبيلين (القبل أو الدبر): سواء كان الخارج كثيرًا أم قليلاً (خلافًا لبعض الآراء في القليل من غير المعتاد).
ويشمل: البول، الغائط (البراز)، الريح (الضراط)، المذي، المني (على خلاف في المني سيأتي)، الدم الخارج من السبيلين كالبواسير النازفة.
الدليل: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا" (رواه البخاري ومسلم).
الريح (الضراط): وهو خروج الغازات من الدبرK ,يثبت بسماع الصوت أو شم الرائحة.
الدليل: الحديث السابق: "إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لاَ؟ فَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنَ المَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا" (رواه مسلم).
المذي: هو ماء رقيق أبيض لزج يخرج عند التفكير في الجماع أو إرادته أو عند الملاعبة، دون شهوة كاملة غالبًا. ويوجب الوضوء دون غسل كامل (الجنابة).
الدليل: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لما سأله عن المذي: "تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ" (رواه البخاري ومسلم).
المني: هو ماء غليظ أبيض يخرج عند الشهوة الكاملة (الإنزال) من الرجل، وأصفر رقيق من المرأة.
,ذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) إلى أن خروج المني يبطل الوضوء فقط إذا خرج دون شهوة (كخروجا بسبب مرض أو برد شديد)، ويوجب الغسل إذا خروج بدافع الشهوة (الاحتلام أو الجماع). بينما ذهب الشافعي إلى أن خروج المني يوجب الغسل مطلقًا، سواء كان مع شهوة أم لا.
الدليل: عموم الآية السابقة، وحديث "إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" (رواه مسلم) على خلاف في تفسيره.
سوائل المرأة من الفرج: ما يخرج من المرأة من فرجها غير المني (كالمذي أو الإفرازات الطبيعية أو دم الحيض والنفاس) يبطل الوضوء لأنه خارج من السبيلين، حتى لو كان طاهرًا في ذاته.
الخلاصة
يتبين مما سبق أن الترتيب في غسل اليدين والرجلين (اليمنى قبل اليسرى) في الوضوء سنة مؤكدة وليس واجبًا. من غسل اليسرى قبل اليمنى في أي منهما، فوضؤه صحيح ولا حاجة لإعادته، لكنه فاتته فضيلة متابعة السنة. أما إبطال وضوء شخص لهذا السبب فهو قول باطل مخالف للإجماع. وعلى المسلم أن يحرص على اتباع السنة في كل أموره، مع العلم بأن العبادة لا تبطل بمخالفة السنة ما دامت الأركان والواجبات قد استوفيت. كما يجب الانتباه إلى مبطلات الوضوء الحقيقية المتفق عليها لضمان صحة الصلاة.